كنت أتمنى على نادي القصيم الأدبي إلغاء ندوته الأخيرة بالكامل بدلاً من الاستجابة للرغبات الإدارية في سير برامجه ونشاطاته. المبرّر الذي استجاب له النادي بإلغاء ورقتين بحثيتين عن التحوّلات الفكرية والثقافية عند المفكِّر عبدالله القصيمي والروائي عبدالرحمن منيف، كان مبنياً على استنكار التذكير ببعثي وملحد متهمين بالعقوق للدولة والوطن. هذه التهم الثلاث على درجة عالية من الأهمية والحساسية، والآراء حولها وفي الراحلين المذكورين متضاربة، وربما تحكمها السياسة أكثر من المقاييس الشرعية والوطنية.
أما بخصوص استهجان التذكير بالمفكر عبدالله القصيمي والروائي عبدالرحمن منيف، فذلك من شأنه تأجيج الرغبة واستثارة الفضول في استكشاف حياة وأعمال الراحلين أكثر مما يثبط عنها، وهذه قاعدة معروفة منذ الأزل. علاوة على مردود الاستهجان العكسي المتوقع، فإنّ الرجلين أصلاً قد تغلغلا في الذاكرة العربية عميقاً، شئنا أم أبينا، كأكبر مفكر وأعظم روائي خرجا من الجزيرة العربية، وقد كتبت عنهما أطروحات عالمية بمختلف اللغات وتدرس أعمالهما وتقلّباتهما الفكرية في أغلب جامعات العالم. بهذا المقياس هما ليسا بحاجة إلى التذكير بهما.
وأما بخصوص المراحل الثقافية والفكرية التي مر بها عبدالله القصيمي، فليست عندي شخصياً تجربة مباشرة من خلال مقابلة أو جلسة نقاش معه، لكنني أعرف أنّ الرجل كان له علاقات صداقات قوية مع رجال نافذين كبار في المؤسسة الإدارية السعودية، بعضهم غادر الحياة الدنيا وبعضهم ما زال على قيد الحياة. أرجو من هؤلاء الأحياء أو من بعضهم أن يبادروا بوضع النقاط على الحروف عن مسألتي اتهامه بالإلحاد وبعقوقه للدولة والوطن. كان الرجل معارضاً صاخباً لكلِّ أنواع التردِّي والبؤس في الأوضاع العربية والإسلامية، وكان محبطاً أشدّ الإحباط من الجهل المخيّم والهزائم المتتالية وانغلاق الآفاق السياسية في وجه الحريات في العالم العربي والإسلامي بالكامل. لكن عبدالله القصيمي كان على صلة باقية بوطنه عن طريق علاقاته الخاصة برجال كبار في الدولة السعودية، يزورونه في مصر ويجالسونه ويناقشونه، ويمدّون له أيادي المساعدة باسم الدولة السعودية، ولم يكن يرفضها. أحد أصدقائه الأحياء يؤكد أنّ عبدالله القصيمي أجابه على سؤاله عن الأحوال هكذا: لقد أصبحت الآن وحيداً مع آلامي أمام الله. كان الرجل أيضاً أباً صالحاً أنجب لهذه البلاد الدكتور محمد والدكتور فيصل وهما من خيرة الأطباء السعوديين المتخصصين.
وبخصوص الروائي الراحل الكبير عبدالرحمن منيف، لديّ شهادة شخصية أسجِّلها للتاريخ إبراءً للذمة. جمعتني محاسن الصدف قبل حوالي سبع أو ثمان وعشرين سنة بالروائي عبدالرحمن منيف في مصيف الزبداني السوري، في ضيافة صديق عزيز فاضل انتقل إلى جوار ربه قبل سنوات قليلة، وكانت تربطه بالمنيف علاقة وفاء وصداقة طفولة وشباب لم تستطع السياسة ولا المسافات قطعها.
تقابلنا على الأقل في عشر أمسيات، واليوم أتذكّـــر جوهر ما تبادلنـاه من أحاديث، بعد ما قرأت في الصحف إلغـــاء الورقة الباحثة في تحوّلاته الثقافية والفكرية في اجتماع نادي القصيـم الأدبي الأخير. ما اطلعت عليه مشاهدة وسماعاً آنذاك هو أنّ عبدالرحمن منيف كان رجلاً يملأه إحساس شديد بالمرارة والامتعاض من حزب البعث بشقّيه العراقي والسوري ومن السياسة كلها. كان الرجل يعيش في سوريا حافظ الأسد فاراً من عراق صدام حسين، ولم يكن موالياً لأيٍّ منهما ولا لحزب البعث ولا لأيّ طرف سياسي آخر. استنتجت من أحاديثه أنّ الأيام كشفت له من الحقارات والكذب والعنف الدكتاتوري في ممارسات البعث، ما جعله يكره السياسة والسياسيين ويفترق عنهما إلى الأبد. لكن حرصه على سلامة زوجته وبناته جعله يرضى مكرهاً بالإقامة في دمشق في عزلة تنسكية، مصاباً بالاعتلال الكلوي وعلى حافة الفقر. لم أستشف من أحاديثه أية إشارة إلى الابتعاد عن الإيمان بالله وبقضائه وقدره أو أي جفاء أو حقد على السعودية، بل استنتجت أنه كان يتقبّل شاكراً بعض المساعدات السعودية، ولم أحاول معرفة إنْ كانت تأتيه بطرق مباشرة أو غير مباشرة. هذه شهادة شخصية أسجِّلها هنا كتابة للتعبير عن ما عرفته عن الروائي الكبير عبدالرحمن منيف، بعد أن ودّع السياسة وأهلها وهو حي، وقبل أن يودع الحياة الدنيا بكاملها.
الأكثر أهمية من انطباعاتي الشخصية على الأقل بالنسبة لي، يبقى أن أذكر بأنّ القصيمي والمنيف يمثلان قامتين فكريتين معروفتين عالمياً، وأنّ مسألة التحوّلات المرحلية في الفكر والثقافة مسألة يمر بها ولا يستطيع التبرّؤ منها أي إنسان مفكر أصلاً، بل هي دلالة ناصعة على اليقظة الذهنية والتأمّل المستمر، وذلك من الصفات الجوهرية للحياة. الفرق بين العقول المفكرة اليقظة هو درجة الجموح ومقدار الصّخب، وهذه ظواهر نسبية تخضع كثيراً للظروف التي يمر بها المفكر أثناء مراحله التربوية والمعيشية والفكرية.
كم هي هائلة أعداد الرواد في التاريخ الإنساني الذين تعرّضوا عندنا وعند غيرنا، لسوء الفهم ومحاولة الإقصاء والمسح من الذاكرة، لكنهم احتلوا في النهاية أماكنهم المستحقة من الذاكرة التاريخية.
ويبقى سؤال أخير عن صدقية وعدالة المجتمع الذي يتبنّى ويمول المناصحة، وفتح أبواب العودة والقبول لأساطين الإرهاب والتكفيريين ومفجّري المجمعات السكنية وقاطعي الرؤوس، لكنه يحاول جاهداً مسح المعارضين بالفكر والكلمة من الذاكرة الجمعية.
على كل حال، المرحلة التاريخية الحالية لا تحتمل الإلغاء السياسي والإداري للأفكار، لأنها المرحلة الملحّة للحوار والتفاهم، وهذا هو المطلب الأول لرأس الدولة الملك عبدالله - حفظه الله -.
- الرياض