أصدر المركز المغربي متعدّد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية مؤخراً تحت إشرافنا المتواضع الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية الذي شارك فيه أزيد من ثلاثمائة خبير؛
وثمة ضرورة علمية وفكرية وأكاديمية، وحاجة معرفية، وانتهاج توثيقي، دعتنا إلى تأليف وإصدار هذا الكتاب السنوي لجعله مرجعاً يحتذى بتوفير المعلومات، وتحليلها تحليلاً علمياً واستقائها من مصادرها الموثوقة، وتقديم موادها بحرفية عالية ورفيعة المستوى، إضافة إلى وسم مادة الكتاب، بكامله، بالشفافية والموضوعية والدقة، ليتيح المجال واسعاً ومطمئناً لآخذي القرار في المغرب وخارجه وللباحثين والمفكرين، والاقتصاديين ورجالات الدولة في المغرب والوطن العربي والعالم بأسره، ومحترفي الدبلوماسية والسياسة ولمراكز البحث، الرجوع إلى هذا الكتاب لتبين ما حدث طيلة السنة ودراسة كل ذلك بمنهجية علمية ونقدية واستشرافية. فهذا الدليل يسعى إلى تكوين مدرسة في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية والعلوم الاقتصادية، حيث الأبحاث الدقيقة في هذا الباب نادرة إن لم نقل منعدمة، ليسدد بذلك الدليل فجوة كبيرة، ويقدم في ثلاث لغات العربية والفرنسية والإنجليزية 5400 صفحة، نظرة شاملة ومستقصية، وواسعة الأفق لكل مجالات الإستراتيجية والعلوم السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية وبما سيحمله من تراكم معرفي، ونمو مطرد في البيانات والكشوفات والإحصاءات والتقارير والبحوث بأرقامها وتواريخها.
وهذا العمل ليس بالهين؛ وفي عملنا المتواضع ليس هناك مركز بحثي في العالم يقوم بإصدار هذا النوع من الدليل بلغات ثلاث في آن واحد.
يمكن للعمل أن يترجم ولكن ليس من طرف المركز الذي ألف الدليل أو الكتاب.. ويمكن الاستشهاد هنا بكتاب سيبري الذي يصدر عن معهد سويدي دولي مستقل للأبحاث بشأن مشكلات السلام والصراع، ولاسيما تلك المتعلقة بنزع الأسلحة والحد من انتشارها (وهو للذكر يمول من طرف البرلمان السويدي ويعد من أعظم الكتب المعتمدة في مجالات الأمن والصراعات والإنفاق العسكري، وحظر الانتشار والحد من الأسلحة ويقوم بالكشف عن مجريات الأحداث، في العالم كله، في تغيراتها، وتطورها، سلباً وإيجاباً)؛ هذا الكتاب مثلاً يصدر باللغة الإنجليزية ويترجم إلى اللغة العربية ليس من طرف المعهد السويدي ولكن من مركز دراسات الوحدة العربية الذي مقره ببيروت مع فارق الوقت الكبير بين إصدار الطبعة الأم والطبعة المترجمة.
في فرنسا توجد تجربة فيما يتعلّق بهذا النوع من التأليف؛ ويمكن أن نذكر على سبيل المثال “الدليل الفرنسي للقانون الدولي” و”الدليل الفرنسي للعلاقات الدولية” الذي احتفل مؤخراً بمرور عشر سنوات على إصداره؛ ولكن الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية يسعى لتجاوز محدودية مثل هذا النوع من التأليف ذي المنظور الضيق، لييني في نفس الوقت وعياً إستراتيجياً وسياسياً واقتصادياً في آن واحد، وليستدعي جهداً علمياً فعلياً، لا مجرد دراسات محدودة أو إعلان نيات كما هو دأب بعض الإصدارات العربية، أو استبدالات لغوية، تنتبه إلى القشور فيما هي تذهل عن المضامين الحقيقية والدلالات؛ ولا غرو أن هذا ما ينقصنا بالضبط في عالمنا العربي ولعقود، لأننا دائماً ما أبينا أحكام النقد في مجتمعاتنا الفكرية واكتفينا بنشر مبادئ محاولين زرعها دون أن نقوم بإنتاج عقل إستراتيجي، سياسي عربي حديث قابل لأن يتداخل تداخلاً نظرياً تاريخياً ناجحاً مع معضلات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والدولة والمجتمع فيقدم حولها معرفة علمية ويساهم بها في ترشيد التوجيه والممارسة: ممارسة عملية التغيير والتقدم.
ولا غرو أن الدلائل والكتب السنوية والمجالات الأكثر ذكراً في الجامعات العالمية ومراكز الأبحاث هي أمريكية بالدرجة الأولى.
ثم إن الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية وإن اعتمد على المنهجية الأنغلوساكسونية في التحليل وجمع الأخبار والمعلومات بطريقة ذكية وهادفة، فإنه يبقى بعيداً من ذلك السيل من النصوص التي هي إلى الوصف واجترار الدروس أقرب منها إلى المادة الفكرية والعلمية، والتي هي أيضاً إلى الملفوظات المتراكمة والشطح اللغوي الذي تردد فيه كلمات غامضة، أكثر منها إلى التراكم العلمي والمنهجي القابل لسبر أغوار الفكري السياسي والإستراتيجي الصحيح.
وحتى الإنتاج الفرنسي الذي يرجع إليه معظم الباحثين المغاربيين يبقى ضعيفاً جد مقارنة مع الإنتاج الأنغلوساكسوني خاصة الأمريكي منه؛ فعدد الدلائل والكتب السنوية والمجلات المتخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية تدل على ذلك خاصة إذا أخذنا في الحسبان عدد الناشرين وقوة الدعومات المالية المقدمة وتشابك العلاقات بين تلك الإصدارات وآخذي القرار في أمريكا؛ فقضية جمع الجامعيين مع المسؤولين في كل القطاعات والخبراء غير الجامعيين هي في قائمة أولويات المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية، وبالأخص هذا الدليل، على خلفية مركزية وقوة هذا الجمع في التحليل المقنع واستشراف المستقبل وبناء وعي فكري جديد حتى نعيد النظر في بعض أوهام عقائد المراحل الماضية وندشن لحقبة من النظر الهادف تكون أجزل عطاء.
كما أن المراكز البحثية في فرنسا ضعيفة مقارنة مع مثيلاتها الأمريكية؛ ولا يخفى على كل متتبع حصيف أن القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم خاصة الغربية منها، تتأثر بما تقدّمه مراكز الأبحاث الفكرية من دراسات وتقارير، بل إنها تؤثّر على الرأي العام عن طريق مجموعة من الأساليب المتقنة، وإذا أخدنا مثال الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإحصاءات تشير إلى أنها تتوفر على ما يزيد عن 1400 مركز ومؤسسة تعنى بالعلاقات الدولية، منها مؤسسات تقدم دراسات وأبحاثاً متخصصة في القضايا السياسية كمجلس العلاقات الخارجية الذي يصدر دورية شهرية وهي شؤون خارجية، ومنها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأمريكية في صناعة القرار كمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون.
أما في عالمنا العربي، فما زال عدد ودور هاته المراكز محدوداً على الرغم من وجود قدرات فكرية وكفاءات بشرية متميزة يمكنها أن تساهم في التجدد المعرفي والتخطيط المستقبلي، بل يمكنها أن تساهم في التأثير على السياسات العامة الداخلية والخارجية؛ وهذا كنه أنشطة المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية وعلى رأسها الدليل السنوي.
تتناول مواد هذا الدليل مسائل مختلفة ينتظمها خيط رابط؛ فهناك المجالات الدبلوماسية للمغرب في كل الجوانب مع إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي؛ وهناك قضية الصحراء المغربية في كل جوانبها وتداعياتها وطنياً وإقليمياً ودولياً، حيث هناك إما فجوات أو مغالطات يتم تناسيها أو نشرها خاطئة، وقام الدليل بطريقة علمية وفكرية موضوعية بدحضها وتصحيحها؛ وهناك المجال الاقتصادي في كل جوانبه وهناك المجال السياسي والقانوني والمؤسساتي الداخلي وهناك القضايا الجهوية والدولية الذي ينظر إليها الدليل بوضعها في ميزان المراجعة والفحص النقدي.
وأما الخيط الرابط الذي ينظمها فهو الرؤية الإستراتيجية إلى هذه المسائل جميعاً من منظور مسكون بفكرة المستقبل.
كما أن هذا الدليل سيشكل عنصراً مساعداً ومهماً لتثقيف العقول بعيداً عن البساطة.
والتفكير الإستراتيجي والتنظيري النظري عمل صعب وإلا لماذا تخفق الإستراتيجيات الحكومية العديدة في اجتياز اختبار الواقعية وتحقيق النتائج الملموسة عند تنفيذها؟ وإلا لماذا مثلاً تنجح الإستراتيجية الاقتصادية في الصين وكوريا الجنوبية وتخفق تلك التي تطبق في اليونان وإسبانيا وإيطاليا مثلاً؟
فالإستراتيجية علم وفن تستلزم من صاحبها الإلمام بكل التفاصيل الموجودة، وتفاصيل العالم الحديث واختلافاته خاصة إذا أخضعت المسألة إلى عملية مؤسساتية أو حوار فكري وطني، بل عالمي وهي مسألة شديدة الأهمية.