كثير من شبابنا اليوم لا يعرف كلمة «امبريالية» هذه الكلمة كانت من ضمن قاموس لا يمل العرب القوميون في الماضي من ترديدها بمناسبة أو دون مناسبة؛ وهي كلمة عُرّبت من (Imperialism) وتعني الدول التوسعية الاستعمارية التي تتكئ على قوتها لالتهام الدول الصغيرة والسيطرة على قراراتها؛ فأمريكا والدول الغربية كانت - كما يصفها القوميون العرب - دولاً امبريالية بامتياز تسعى لفرض سيطرتها واستعمارها على الدول العربية، أو كما كانت تسمى (الأقطار العربية)، بينما أن دول المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي آنذاك تسعى بكل ما تملك من قوة ونفوذ إلى مجابهة هذه الهجمة الامبريالية «القذرة» كما كانت تُوصف، وتقف إلى جانب الشعوب وحقها في التحرر والانعتاق من الهيمنة الاستعمارية.
عبارة «الامبريالية» غابت عن القواميس العربية؛ فلا أسمعها الآن إلا في التلفزيون السوري الذي تشعر وأنت تتابعه أنك تستمع إلى إذاعة من إذاعات الستينات العربية التي كانت هذه اللغة وتلك المصطلحات مسيطرة على لغة الخطاب فيها.
والإعلام الرسمي في الدول المنتمية إلى المنظومة الاشتراكية آنذاك كان إعلاماً دعائياً صرفاً؛ هدفه الدعاية والتمجيد والتطبيل للحزب ولرموز السلطة فيه؛ إضافة إلى أخبار الرفاق وتحركاتهم وأعمالهم ومشاريعهم لنصرة الشعوب؛ وطبعاً «حش» النظم الامبريالية الاستعمارية الغربية، وكل من يدور في فلكهم من العملاء والأقزام الرّجعيين. وكانت الدول العربية في الخمسينات والستينات تنقسم إلى قسمين: العرب التقدميون والعرب الرجعيون ؛ وكانت المملكة ودول الخليج على رأس الدول الرجعية بينما سوريا وليبيا والعراق واليمن الجنوبي هي دول التقدم والرقي والرفعة. الآن تذهب إلى تلك الدول العربية او التقدمية كما كانوا يصفون أنفسهم تبحث عن «التقدم» فلا تجد إلا التخلف والتأخر في كل المضامير؛ رغم أن ليبيا القذافي وعراق صدام كانتا دولتين نفطيتين، وكان بإمكان هاتين الدولتين أن تكون في مصاف المملكة ودول الخليج في كل شيء إلا أن التحاقها بالمعسكر الاشتراكي ودورانها في الفلك القومي العروبي وخزعبلاته وشعاراته جعلها لا تختلف كثيراً عن الدول العربية فقيرة الموارد.
الغريب أن أغلب من درس في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص من السعوديين في الستينات والسبعينات وجزء من الثمانينات، وعاد من هناك بعد التخرج كانوا هم رموز القوميين في بلادنا؛ وفي الوقت نفسه يكنون كرهاً للغرب وللثقافة الغربية؛ رغم أنهم نهلوا من مناهل تلك الثقافة وارتووا من قراحها وعرفوا سُبل العلم والمعرفة في معاهدها وجامعاتها. وفي تقديري أن ذلك يعود إلى سيطرة ثقافة عرب الشمال على المحافل والمنتديات العربية في تلك الأصقاع؛ فما أن يصل الطالب السعودي إلى هناك حتى يتلقاه هؤلاء ويبدأون في تلقينه ثقافة الكراهية للغرب، وتشبيعه بالثقافة المتمردة على نظام بلاده، وتكريس الثقافة القومية، وتذويب الانتماء لوطنه الحقيقي في بوتقة ما يسمونه (الوطن العربي الكبير)، فيعود والانتماء للوطن العربي الكبير هو الانتماء النهائي الذي يجب أن تنتهي عنده الآمال وتحط في مرابعه رحال الطموحات.. إلا أن غزو الكويت، ووقوف أغلب القوميين العرب في صف صدام، جعل كثيراً من السعوديين والكويتيين والخليجيين بصفة عامة يصحون من أحلامهم الوردية، ويدركون أن الفكرة القومية الوحدوية فكرة تدمي
رية قد تستغل لتصبح وبالاً على الأوطان وليست فقط مجرد (ترف فكري) يتجاذبون أطراف الحديث عنه في المجالس والصالونات الأدبية.
والسؤال الذي يفرضه الواقع ونحن نرى معاقل القوميين العرب تنهار الواحدة تلو الآخر: هل بقي من يُراهن على الفكر القومي العروبي بعد أن فشلت أطروحاته ودوله وجميع تجاربه بلا استثناء؟ إلى اللقاء.