ليس لدي أدنى شك في أن إيران فقدت ثقتها أمام العالم الإسلامي؛ بسبب افتضاح مواقفها الأخيرة، وزيف شعارات الممانعة، والمقاومة التي ارتفعت رايتها طيلة - العقود الثلاث الماضية -. ولم يعد بوسع أحد أن ينجرف مع التيار الإعلامي الإيراني، أو يساهم في تغطية الحقائق، ووضع الأقنعة على المخطط الإيراني في مشارق الأرض، ومغاربها.
- قبل أيام - دعا مندوب الولي الفقيه في شؤون الحج، والزيارة، والمشرف على الحجاج الإيرانين، - حجة الإسلام - سيد علي قاضي عسكر، إلى “ إجراء مراسم دعاء كميل، ومراسم البراءة من المشركين، باعتبار أنها جزء من برامج بعثة قائد الثورة الإسلامية في موسم الحج القادم”، وهي دعوات تأتي - مع الأسف - في سياق السعي الإيراني؛ لإثبات قوة الثورة الخمينية في مناسبة عظيمة، يجتمع فيها ملايين المسلمين من حول العالم. كما أنها ليست حالة طارئة في العقيدة، والسياسة الإيرانية، وإنما مخطط إستراتيجي قديم، يهدف إلى تحقيق توسع النفوذ الإيراني في المنطقة.
إذا كان المقصود بالبراءة من المشركين، وأهله، هي دول الاستكبار العالمي، فالأحرى بخامئني، وأتباعه، أن يقيموا تلك المناسبات البدعية، وهذه المسيرات في النجف، وكربلاء. فتلك المدينتان أحق بمسيرات البراءة من المشركين - على حد زعمهم -، مع أن سياستهم تخالف ذلك، فهم لا يقصدون البراءة الحقيقية من أمريكا، وإسرائيل، وإنما هي البراءة من أهل السنة، ومن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وسائر الصحابة، والتابعين. ثم إن الحج في الفكر الصفوي إلى كربلاء، أهم من الحج إلى مكة، يؤيد ذلك مجموعة من رواياتهم، ومنها: “ لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته، وبفضل قبره؛ لتركتم الحجّ رأسًا، وما حجّ منكم أحد، ويحك: أما علمت أنّ الله اتّخذ كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا، قبل أن يتّخذ مكّة حرمًا..”، بحار الأنوار 101 - 33، وفي رواية أخرى، تفصل لنا هذا الأجر العظيم: “ من أتى قبر الحسين، عارفًا بحقّه في غير يوم عيد، كتب الله له عشرين حجّة، وعشرين عمرة - مبرورات مقبولات -.. ومن أتاه في يوم عيد، كتب الله له مائة حجّة، ومائة عمرة.. ومن أتاه يوم عرفة عارفًا بحقّه، كتب الله له ألف حجّة، وألف عمرة - مبرورات متقبّلات -، وألف غزوة مع نبي مرسل، أو إمام عادل “، (فروع الكافي 1 - 324، من لا يحضره الفقيه: 1 - 182 )، وهذا الفضل لكربلاء قديم جداً، حيث تزعم الرواية الثالثة: “ اتّخذ الله أرض كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا، قبل أن يخلق الله أرض الكعبة، ويتّخذها حرمًا بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها، وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق - مقدّسة مباركة -، ولا تزال كذلك؛ حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنّة، وأفضل منزل، ومسكن يسكن فيه أولياءه في الجنّة “، (بحار الأنوار101 - 107).
إن حقيقة الشرك في المفهوم الشيعي، هو إشراك سوى الإمام في الإمامة، كرواية: “ ومما عد من ضروريات دين الإمامية.. البراءة من أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية “. فهي - إذن - قضية مبتدعة، ليس لها أصل في الإسلام، إذ لا سند لها من المنقول، والمعقول. وحول هذا المعنى، يقول - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : “ أما القيام بالمسيرات، والمظاهرات في مواسم الحج في مكة المكرمة، أو غيرها؛ لإعلان البراءة من المشركين، فذلك بدعة لا أصل لها، ويترتب عليه فساد كبير، وشر عظيم، فالواجب على كل من كان يفعله تركه، والواجب على الدولة - وفقها الله - منعه؛ لكونه بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر، ولما يترتب على ذلك من أنواع الفساد، والشر، والأذى للحجيج، وغيرهم “.
إن استشعار هذا الموقف الجليل، وعظمته، والاهتمام بالأمن، وسلامة الحجاج، وتأدية الفريضة بعيدا عن أي شعارات، لا تليق أبدا مع استغلال تلك المناسبة في أهداف سياسية، مطلب شرعي. فالحج ليس مكانا لنقل الخلافات، وتصفية الخصومات، ورفع الشعارات، أو تحويله إلى منابر سياسية، تتصارع فيها الطوائف، والمذاهب. ولا تزال صور المسيرات في عامي : 1407 هـ، 1409هـ، حاضرة في ذاكرة كل من عاشها، حين تحولت مظاهرات البراءة من المشركين، التي قامت بها عناصر من الحرس الثوري الإيراني، بالتعاون مع “حزب الله” الكويتي إلى معارك دامية، أسفرت عن قتل، وجرح المئات من الحجاج.
drsasq@gmail.com