حين انتقلت «الجزيرةُ» إلى مقرها الجديد نبتَ في طموحات مسؤوليها تخصيصُ مساحةٍ معرفيةٍ تشتمل على مكتبة مفتوحة ومقهًى هادئٍ ومكاتبَ أنيقةٍ يرتادها كبارُ كتّاب الجزيرة ومثقفي الوطن، وبدا الأمرُ منسجمًا مع رسالة الصحافةِ المعززةِ بإمكانات الجريدة كما مكانتها.

* حكايةٌ تفتتح إجابةً عن سؤالٍ توجه به «الصديق عبدالحفيظ الشمري» في زاويته «الإثنينية» بعد حوارٍ بينه وبين «الصديق مدير التحرير للشؤون الرياضية الأستاذ محمد العبدي» عن سبب عدم رؤية المثقفين في مكاتب إدارة التحرير للشؤون الثقافية، وهو استفهامٌ يستعيد فترةً خصبةً كنا خلالها نسعد بحضور عددٍ منهم، وأهم أهدافهم إحضار مقالاتهم حين لم يكن وسيطٌ غيرَ الفاكس والبريد، وهو ما يفسرُ تقاصرهم؛ فلم يُبقِ البريد الإلكترونيّ داعيًا للحضور كما لرديفيه الورقيين، وإن بقي استثناءان أو ثلاثةٌ يؤكدون القاعدة.

* وإذا كانت التقنيةُ عاملًا فاعلًا في تخفيف العبء التواصلي فإن تضاؤل الإقبال على الأنشطة المنبرية عاملٌ آخرُ، وقد جربت الصحيفة - على مدى سنوات- استضافةَ متحدثين وطرحَ قضايا ثقافيةٍ في ندوات، ووَجهت دعواتٍ عامةً، ونشرت مخرجاتها، ولقيت قبولًا في حينه، ثم توارت مع تضاؤل الإقبال، وزيادة المنتدين عبر شبكات التواصل الاجتماعي واستغراقِها أوقاتَهم، عدا مشكلات ازدحام الرياض وتشديد إجراءات الدخول للمبنى وما في حكمهما.

* هوامشُ في قضية تجسير المسافة بين المثقفين والدوائر المعنيةِ بشؤونه وشجونه، والرسميون في الأندية وجمعية الثقافة يدركون حجم التناقص «المتزايد» في تفاعلهم في حين لا يشكو المنبر الوعظي من ذلك؛ فهل الخلل في المنبر أم المنبريين؟

* يظن بعض المتفرجين أن من يسمون المثقفين- بحكم تأهيلهم الذهني- متفقون مبدئيًا ومتوادون روحيًا ومقتربون سلوكيًا، والحقيقة أنهم جسمٌ هلاميٌ لا يُرى، وما يصل بينهم عنوانٌ هائمٌ لا يعني أكثر مما يعنيه تصنيفٌ مهنيٌ؛ فهم كما التجار والصنَّاع والأطباء والمهندسين وسواهم غير متماثلين وليسوا سواءً أو على هيئةٍ واحدةٍ أو منهجٍ موحّد.

* ويظن بعض المتفرجين أن المثقفين فئةٌ جميلةٌ، وفيهم مَن هم كذلك ومن دون ذلك، وربما كان لضبابية المصطلح واتساعه دورُه في إضفائه على من يُفترض أن يكونوا خارج محدداته ممن لا شأن لهم بمحاكمة القيم وإنتاج الوعي والنأي عن السلطة وعدم الانسياق خلف «الدوغمائية» المتحجرة أو «الديماغوجية» المتملّقة.

* المثقفُ المفتقد يسير هَونًا ولا يبحث عن تابعين ولا يعنيه المقعدُ الأول ولا يجيدُ طقوس الولاء ومراسمية المِشية والملبسِ والمركب، كما لا تسحبه الأضواء؛ فإذا بدت ملامحه عبرها قلنا: أين كان منا أو أين كنا عنه، وهو من نحتاجُ للذهاب إليه لا انتظار حضوره.

* العالِمُ يُسعى إليه.