يقال لمن يختار أمراً يبدو مراً - حسب ما تواتر لدى عامة الناس وتعارفوا عليه - على الرغم من وجود أمر آخر يبدو أقل مرارة منه وأفضل، يقال له: وش اللي حادك على المر ؟، على اعتبار أنّ المر ليس الخيار المفضّل، يأتي الرد منه معنوناً بمقولة: (حدني على المر اللي أمر منه)، يعني الذي جعله يختار المر ويفضله، هو أنّ الخيار الآخر البديل، يُعَد أكثر مرارة مما تم اختياره، لذا فضّل المر على الأشد مرارة، وفي هذا التفضيل منطق معقول مقبول، قد لا يختلف عليه اثنان لمظنة العقلانية في التسويغ.
يتبادر هذا التساؤل على الذهن، ويطرح على أولئك الذين يختارون بملء إرادتهم، وتمام إصرارهم المسبق على تسجيل أبنائهم في المدارس الأهلية، على الرغم من أنّ المدارس الحكومية على اختلاف مراحلها كافة متوفرة مجانية منتشرة في كل الأحياء، جلّها في مبان مدرسية واسعة، لا وجه للمقارنة بينها وبين المدارس الأهلية التي جلّها في مبان مستأجرة تفتقد المرافق التربوية والتعليمية المساندة، وأهم من هذا كون المدارس الحكومية منتشرة في كل حي، قريبة من السكن، لا عناء في توصيل الأبناء ولا تبعات مادية ترهق الأُسرة وتستنزف مواردها، المنطق السليم والعقل الراجح يؤكدان أنّ خيار المدارس الحكومية أفضل، ولا وجه للمقارنة بينها وبين المدارس الأهلية، ويبدو أنّ هذا الحكم صائب في جملته وفي عموم دلالاته.
لكن وعلى الرغم من هذه الميزات المعروفة التي تُعَد في صالح المدارس الحكومية، تعزف فئة من أولياء أمور الطلاب عن المدارس الحكومية وتتجه إلى المدارس الأهلية إما بقناعة ذاتية منهم حيناً، أو بإجبار وإلزام من الأبناء وهذه حال الأعم الأغلب من أولياء الأمور على ما يبدو، وسواء أكان العزوف عن المدارس الحكومية والاتجاه للمدارس الأهلية بدافع شخصي من الآباء، أو قسري بسبب الأبناء، فلدى كل منهم جملة من المسوغات، يتعذّر ذكرها نظراً لكثرة عددها، وتنوُّع مجالاتها، واختلاف أهميتها وقيمتها بين الآباء أنفسهم فضلاً عن الأبناء، إلاّ أنها كلها تتجه إلى تفضيل المدارس الأهلية على المدارس الحكومية.
من بين المسوغات التي تواتر ذكرها إلى درجة الإجماع، الإشارة إلى اكتظاظ الفصول بالطلاب، فهذا المسوغ يُعَد مصدر قلق وخوف لدى الآباء، حيث يخشون على تحصيل أبنائهم الدراسي، فمن نافلة القول الإشارة إلى أنه كلما زاد عدد الطلاب في الفصول قلّت فرصهم في التمكُّن العلمي في المواد الدراسية، جلّ الآباء يذكر أنّ عدد الطلاب في الفصول الحكومية في المدن الكبيرة كبير جداً، حيث يتراوح بصفة عامة ما بين 35 - 45 طالباً في الفصل الواحد، وخاصة في الرياض وجدة.
مما لا شك فيه أنّ لتكدِّس الطلاب في الفصول، وخاصة في التعليم العام، أثره السلبي على تفاعل المعلم مع الطلاب، لا سيما وأنّ التوجهات التربوية تؤكد على المعلمين اعتماد أسلوب “التعلُّم المتمركز حول الطالب” وهو أسلوب تدريسي يعنى بكل طالب على حده، بحيث يتحقق المعلم من أنّ كل طالب استوعب الدرس وفهم مضامينه، من خلال الجهد الذي يقوم به الطالب والذي يقدّر بـ 80 % في الموقف التعليمي، بينما يقتصر دور المعلم على 20 %، وهذا يقتضي أن يكون المعلم قريباً من كل طالب، يوجهه ويرعاه ويساعده في اكتساب المعرفة وإنتاجها، وهذا بطبيعة الحال أمر يتعذّر في فصل يصل عدد الطلاب فيه إلى أربعين أو أكثر.
الآباء اختاروا المر على اعتبار أنّ الخيار الآخر أمرّ منه حسب تقييمهم، ولهذا الاختيار تبعات يعلمونها، لهذا عليهم أن يحسنوا الاختيار، وأن يتحمّلوا ما يترتّب عليه من أعباء.