عندما قلت في غمرات الانفعال: ليس هناك حضارة بريئة، حتى الحضارة الإسلامية. اشتط غضب الورعين، وثارت ثائرتهم. وكادت هذه المقولة ترهقني صعودا.
وتذكرت في ضجة التساؤل المقولة الراشدة:
(حدِّثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله)، مع أن مقولتي مقولة صدق، كما الشمس في رابعة النهار:
وليس ينفع في الأذهان شيْءٌ.. إذا احتاج النهار إلى دليل
والذين صَرَّحوا بالحقائق العلمية في غير وقتها المناسب، لقي البعض منهم حتفه. ومن قبل قيل:- (ماترك قول الحق لي صديقاً)، والحقيقة مرة، وثقيلة على النفوس، غير أن العاقبة حميدة للطرفين، ولكن بعض القراء نفعيون، أو متربصون، أو مزايدون. وهذا الصنف لايرجى لعداوتهم بُرْء.
ولأن الأسد في النهاية مجموعة خراف مهضومة، فإن الحضارات تتوارث التجارب الإنسانية، وماترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من القول المكرور. ومن ليس له سلف يقتدي بهم، ويرث خصالهم الحميدة، فلن يكون له خلف عدول، يحملون رسالته. والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ولقد أثنى على (حِلْف الفضول)، واستعذب شيئاً من شعر الجاهلية، واستنشده، وتمنى رؤية بعض من سلف من الشعراء، وأثنى على شعر «أمية ابن أبي الصلت».
«وعباس محمود العقاد»، حين كتب عن «بلال بن رباح» مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، استهل كتابه بمقدمة طويلة، كادت تستأثر بالأهمية، كما استأثرت (مقدمة بن خلدون) بأهمية تاريخه. وخلاصة ماتوصل إليه «العقاد» أن الإسلام لم يُشرِّع (الرق)، ولكنه هذبه، وحصر موارده، وعَدَّد منافذ العتق. وهو قد فعل مثل ذلك مع (الطلاق) و(التعدد) و(الإيلاء)، وغيرها، مما أقَرَّ من عادات الجاهلية.
وفي النهاية فإن الشريعة الإسلامية بكل ماتحمله من مقومات البقاء، والشمول، والعالمية، لبنة في قصر مُنيف، هو رمز الحضارة الإنسانية.
وتطلُّعي إلى القراءة البريئة، لبعض ما أكتب، مما يحمل الإشكاليات، والمتشابهات، كمن يلتمس في الماء جذوة نار، أو كمن يبحث عن الغول والعنقاء والخلِّ الوفي. ولما لم يكن للأمل حَدٌّ، فإن الأمل في أن نسعد، ولو للحظة واحدة بقارئٍ غير مبرمج، وغير مشدود بأمراس كتان إلى صم الطائفيات، والمذاهب، والأهواء.
والأماني قد لايتحقق أَيْسَرها، ولكن المتَمنِّي يعيش فيها زمنا رَغْداً، على حد قول الشاعر:-
(مُنىً إن تَكُن تَكُن غاية المنى.. وإلا فَقَد عِشنا بها زمناً رغْدا).
والكاتب المحكِّك لكتابته، المُنَخِّل لآرائه، كلما أطلّ على قرائه، أقبلوا عليه يَزِفُّون بمناجلهم، ومعاولهم، وأدوات تثويرهم، ومقامعهم الحديديَّة، ليُحدِّدوا مايريدون، ويحمِّلوا النص مايشتهون. وهو إذ يرضى منهم قراءة ماتحت السطور، فإنه يمتعض حين يقوِّلونه مالم يقل، وكم من مظلوم لُوِيت أعناق نصوصه، وحُرّفت دلالاته، فصاح في ملئه:
(اقرؤوا ماتحت السطور، ولكن لاتقوِّلوني مالم أقل).
وهل يتطلع مُحِبٌّ للسلام مِثلْي إلى قراءة بريئة، وفي الناس من يحرف الكلم من بعد مواضعه، ويفتري على الله الكذب، على الرغم من وعيده لرسله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين}؟.
فمن ذا الذي يتوقع السَّلامة، وكل إنسان مخبوء تحت لسانه، ولايُرى على حقيقته حتى يتكلم.
ومامن مقال أنخِّله، وأحكِّكه، وأصنع فيه مايصنع أصحاب الحوليات في قصائدهم، ممن أُثِر عنهم إبداعُ القصيدة في أربعة أشهر، ومراجعتها في أربعة أشهر أخرى، وعرضها على النقاد في أربعة أشهر ثالثة. ثم الإفضاء بها إلى المتلقين. ومع ذلك تنطلق القراءات المتعددة، لتَعْبث في دلالاتها، وتنقصها من أطرافها، وتلحق بها القراءات التأويلية، لتحمِّلها من الدلالات مالا تحتمل، ولا تتقيد بالدلالات الوضعية، أو المجازية، بل تذهب إلى السياقات، والأنساق، والخلفيات الثقافية، ولَحْنِ القول، والمضمرات، والدخول في النوايا، والمقاصد غير المرادة. والله وحده المحصّل لما في الصدور، وهو وحده الذي يبتلي السرائر، ويعلم خائنة الأعين، وماتخفي الصدور.
ومن ذا الذي يملك إرادة «المتنبي»، وجنون العظمة عنده، ليقول بملء فمه:
(أنام ملء جفوني عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصم).
إننا مع الرِّقَّة، والهلع، نخاف على كلماتنا من التأويلات الجائرة، كخوف يعقوب على يوسف، وحين نرسل كلماتنا إلى القراء، نكون كـ»أم موسى»، حين تضعه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. ولاسيما أننا لانريد إلا الإصلاح، ولكن سلطة القارئ تسلبنا حقنا، وتَحُول بيننا وبين الدفاع عن وجهة نظرنا، ولا تبالي بصيحات الاستعطاف.
وحين تحدثت عن تحولات مركز الكون النقدي، أشرت إلى سلطة المبدع، ثم سلطة النص، ثم سلطة القارئ. وأشرت إلى أن سلطة القارئ تُخَوِّله تحديد الدلالة، دون النظر إلى مراد الكاتب، بوصف المتلقي مبدعاً رديفاً، يتنفس من رِئة المقال، وسلطة المتلقي آخر صيحة في عالم النقد.
وليس لرجل مثلي، أن يجزع من تحريف كلامه، وكلام الله لم يسلم من تخرصات المفسرين، والقول على الله بغير علم. والله إذ تعهد بحفظ القرآن نَصّاً، لم يتعهد بحفظه فَهْماً ولا تأويلاً.
وذات مرة عَنَّ لي أن ألتمس تحريفات أهل الأهواء، والملل، والنحل في التفسير، وأن أستعرض (الرسائل العلمية) التي تقصت شطحات المفسرين من معتزلة، وشيعة، وجهمية، وقدرية، وصوفية، ومرجئة، وأسطوريين. وحين فرغت من التنقيب في ذلك العبث، تنفست الصعداء، وحمدت الله على السلامة، وأيقنت أن تلك القراءات غير البريئة، التي تتعرض لها مقالات المفكرين، والسياسيين، وسائر الأدباء والكتاب، لاتساوي شطحة واحدة من شطحات المفسرين المبرمجين من أهل الأهواء، والملل، والنحل، وبعض المتطفلين كـ(شحرور)، ومن قبله (طه حسين) و(محمد خلف الله)، ومن بعدهم (أركون) و(أبوزيد)، ولفيف ممن أضلهم سامري الإستشراق، ودعك من مناهج النقد الحديث، وإماتتها للمؤلف، لتتحكم في الدلالة، كما هي عند (البنيويين).
ويكفي أن يقول الضالُّون: إن الجبت والطاغوت في القرآن هما «أبو بكر» و «عمر»، وأن ثاني الأثنين في الغار، ليس هو «أبوبكر»، وأن البقرة المأمور بذبحها، هي «عائشة»، وأن «عليا» رضي الله عنه، ذكر في القرآن أكثر من مئة مرة، بصفاته الدالة عليه، وليس باسمه، وأن حديث الإفك نزل بحق «مارية القبطية». فضلاً عن تحريف الأسماء والصفات، والتخبيص في الإعجاز العلمي، والقصص القرآني. والذين طنْطَنوا حول (المنتمي) و(اللاَّمنتمي)، {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} فما من أحد إلا وَلَه انتماؤه.
إن القراءة البريئة المنشودة أضغاث أحلام، إذ مامن قارئ إلا هو مؤهل لقراءةٍ معينة، أُعد لها، وهو بقراءته يتعمد تحميل النص مايريد توصيله، مما يحقق هواه، لا مايريده الكاتب. وحتى لو صاح الكاتب بملء فمه، لتبرئة نفسه من معطيات تلك القراءات التآمرية، لقيل له:- (قد قيل ماقيل إن صدقاً وإن كذباً).
و»المتنبي» مر على قوم يتجادلون حول بيت من شعره، فراعه فهمهم الخاطئ، وحين سئل عن القول الفصل، لم يجرؤ على تحديد مراده، بل ندبهم إلى ذلك الشيخ «الأعور»، ويعني به «ابن جني»، حيث قال لهم: (إذهبوا إلى الشيخ «الأعور» فإنه أعلم مني بشعري، وإنه يُقَولُني مالم أقل).
والذين كتبوا عن مشكل القرآن، والحديث، ومتشابههما انطلقوا من مناهجهم المذهبية، فـ»ابن فورك» في تناوله لمشكل الحديث، يختلف عن «ابن قتيبة». و»القصيمي» قبل إنحرافه، حين كتب عن الأحاديث المشكلة، يختلف عن ذاته بعد إنحرافه. و»الغزالي» و»البوطي و»أبو شهبة»، عندما كتبوا عن سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم، إختلفوا فيما بينهم، لأن كل واحد منهم ينتمي إلى فكر معين، ومن ثم يحاول توظيف السيرة، لتكون عضداً لرؤيته، و»محمد حسين هيكل» حين كتب عن (حياة محمد) أراد تكريس السنن الكونية، ونفي المعجزات النبوية، وقد تصدى له «القصيمي» قبل إنحرافه، وفنَّد آراءه، ونقضها عروة عروة، ولو عاد «القصيمي» إلى تلك التصدِّيات، لنقضها على نفسه، علما بأن النص هو النص، والمراد هو المراد. وهذه التحولات تؤكد استحالة القراءة البريئة، التي نتفيأ ظلالها، ونود لو استرحنا فيها، ولو ساعة من نهار. ولكن أنَّى لنا أن نجد قارئاً منصفاً، يبحث عن الحقيقة، ولا يهتم بالانتصار، وسيان عنده أن يُجري الله الحق على لسانه، أو على لسان خصمه. فضالته في النهاية الحق، وحين يظفر به، لا يسأل من أين أتى.
وفي النهاية، هل لأحد منا أن يُقرأ، ولو لمرة واحدة، قراءة بريئة، فيسعد بأنه بلغَّ رسالته، وتلقتها أيدٍ أمينة؟. أقول ماتقرؤون، وأعلم أنكم ستتساءلون:
* أي مقال يريد؟
* وأي قارئٍ يعني؟