في شمال الكرة الأرضية يقفز فيليكس (43 عاما) من الفضاءات في هذا الأزرق المستحيل -كما يحلو للصديق الراحل والمحلق بجناح الإنسانية إلى الأبدية والخلود برحمة الله صالح العزاز (إلى جنات النعيم أبا شهد)
أن يسميه- يقفز هذا المغامر قفزة علمية مذهلة ليحقق بها إنجازات هائلة للبشرية تشبه خطوات آرمسترونج على أرض القمر، وفي الوقت نفسه يهاجم في جنوب الكرة الأرضية مسلحون الطفلة ملالا الباكستانية (14 عاما) في حافلتها المدرسية ويخترقون رأسها وجسدها بوابل من الرصاص لأنها تدافع عن حقوق الفتيات في التعليم في وطنها باكستان، فملالا وفيليكس جناحان للتحليق في فضاء الإنسانية الأرحب، القفزة الأولى تابعها الشباب على الهواء مباشرة لرجل تجاوز الأربعين بقليل وجسده يخترق الصوت ليقدم للعلماء ما يساعدهم على إثبات نظرياتهم في الفيزياء والرياضيات والطب والعلوم قاطبة، والأجمل أن العالم بالرغم من صراعاته واختلافاته الأيديولوجية وغير الأيديولوجية اتفق على تمني السلامة للمغامر فيليكس وهو يدور حول نفسه في أزرق السموات إذ حبس أنفاسه معه حتى نطق بعد دقائق، وربما كان الدرس الذي يمكن للأجيال أن تستفيده من هذه التضحية يتلخص فيما يلي:
1 - فترة صعود المنطاد إلى السموات استغرق مدة طويلة تجاوزت الساعتين ونيف، وفترة الوصول إلى الأرض استغرقت دقائق، مما يؤكد أن البناء أصعب بكثير من الهدم، والصعود بطيء والسقوط سريع ومخيف وهذا أشبه بمن يبني جدارا فهو يحتاج إلى طاقم مدرب وأيام في رسمه والتخطيط له وتجهيزه وبنائه حجرا حجرا وإذا ما فكر في نقضه وهدمه فهو يحتاج إلى رجل واحد وساعات لا أكثر.
2 - قيمة التضحية التي يقدمها هؤلاء للجنس البشري وهو لا يدري هل يحترق من احتكاك الهواء أو يفقد سيطرته على المنطاد فيستمر صعوده بعد انعدام الجاذبية إلى المجرات ولن تستطيع قوة غير قوة الله جل وعلا أن تعيده إلى مساره، وبفضل تلك التضحيات استطاع العلماء اكتشاف نظريات وأدوية وأجهزة.
إن التضحية شأن عظماء التاريخ الذين ضحوا بأنفسهم وبأولادهم وبأسرهم من أجل العلم فاستحقوا الخلود في أزهى صوره بينما يدفن ذلك التاريخ طغاته في مزابله ويلعنهم صباح مساء. أتدرون لماذا؟
لأن التاريخ باختصار هو الصامت الأقوى والشاهد الأقسى، ولا يقول لك افعل كذا وكذا وإنما يقول لك لم فعلت كذا ولم كانت النتيجة كذا؟ ولذلك يأتي حكمه على ما فحصه بموضوعية فيختار شخصياته للخلود بانتقائية غير مفهومة ربما لنا نحن عنصر البشر..
3 - التركيز في الموهبة على جانب الخير والقيمة والفضيلة وخدمة البشرية وألا يستغل الإنسان الموهوب قدراته في إلحاق الضرر بالجنس البشري وتدمير عمارة الأرض وغرس جذور الشر في أروقة العالم، ليتأكد أن مهمة الأديان السماوية كلها ورسالة العلم الكبرى تنوير العقول بمحتوى الكون من عجائب تدعم الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى الذي يدعونا إلى التعلم بالتفكر والتأمل وبذلك يكون العلم في صف الإنسان لا ضده مهما كانت هويته وانتماءاته ولذلك حينما تخلو هذه الاكتشافات من أهدافها الإنسانية تضيع عن اتجاهها الصحيح وتصبح سببا في تدمير البشرية وتخريب مكتسباتها وطعن كرامتها وتهديد عيشها وحياتها مؤكدة أن أشد مشاهد الجهل ظلاما وسوادا ما نراه اليوم من واقع يستخدم فيه اختراع ما في عمليات الفتك بالأبرياء المهددين في أمنهم واستقرارهم وفي تعطيل مصالحهم.
4 - الكرة الأرضية صغيرة وقد رأيناها ورأتها البشرية قاطبة مع فيليكس في كبسولته ولا تستحق تلك الصغيرة كل هذا العداء ولا تتحمل كل هذه الحروب، وأجمل الصور هي تلك التحية الخالدة التي ألقاها ذلك المغامر قبل قذفه لنفسه للبشر عامة ليسطرها التاريخ في صفحاته البيضاء مثلما سطر على صفحاته البيضاء عبارة آرمسترونغ حينما وطئت قدماه على سطح القمر وقال كلمته المشهورة: “تلك خطوة صغيرة واحدة لرجل.. قفزة هائلة واحدة للبشرية. وخلد عبارة الفريق القمري حينما نصب لوحة على سطح القمر فقال: الذي يقرأ هنا رجال من كوكب الأرض جئنا من أجل السلام لكل البشرية.. ويجب على البشرية أيضا ألا تنسى كلمات سمو الأمير سلطان بن سلمان حينما استقبل في رحلته الفضائية سؤال مراسل هيئة الإذاعة البريطانية عن رأيه في اختطاف طائرة على يد مجموعة إرهابية آنذاك. فكان جواب سموه ملهماً واستثنائياً وهو يتمنى في تلك اللحظة لو أن أباطرة الحروب وسادة صراع الثقافات يشاهدون هذه الأرض من الفضاء ليدركوا أن (الكوكب الواحد) الصغير لا يحتمل كل هذا النزاع ولا يحتمل كل هذه الحروب والضغائن..
أما الوجه الآخر ملالا.. الطائر الغريد، الذي لا يؤمن بالحواجز، ولا خيوط الشباك الموصدة، ولا بدهاليز الظلام الدامس، اصطادته يد الغدر في قفصه وهي لم تدرك أنها اصطادت الضمير الإنساني الحر، لم تدرك أنها تراجعت مسافات هائلة إلى الوراء والتخلف، لم تدرك أنها أعطت الصورة الحقيقة بين الشمال والجنوب، وبين صعوبة البناء وسرعة الهدم، لم تدرك فلول طالبان بكل أسف أنها تحارب الله ورسوله في منع الفتيات من التعليم في هذا البلد الذي يعد من دول النادي النووي والأكثر جرما هو التعدي السافر على هذه الطفلة التي كانت تكتب كثيراً بأسماء مستعارة لتحكي عبر الانترنت قصص فتيات معذبات في بلدها، وتصرخ بمصادرة حقهن في العيش الكريم والحياة المتمدنة، وتسرد الحكايا عن قهرهن واغتصابهن وإجبارهن على الجلوس في المنزل بدل التعلم، فأقلق هذا الطائر الغريد مجموعات الغربان على الأنقاض والأطلال والكهوف، ويكفيه أنه صوت طفولي بريء أقض مضاجع الجبابرة وحرمهم النوم في مقابرهم وفضح مخططاتهم لدفن البشرية معهم في مزابل التخلف. والكارثة أن هذه الطفلة التي تسرد حكايا الآخرين مرت حكايتها الشخصية على نشرات الأخبار باستحياء ولم تتصدر صورها الصحف، ولم تحتج على محاولة اغتيالها الأمم ولا مبعوثوها ولم تعقد من أجلها المؤتمرات.. والله من وراء القصد
abnthani@hotmail.com