بعيدا عن «ثقافة الغضب» كما يقول الغذامي و اندماجا مع «ثقافة التحليل» أيضا كما يقول شيخنا الغذامي، وتفعيلا للوعي الاستباقي كما أقول أنا، فإن ما حدث في ملتقى القصيم كشف لنا «عورتنا الثقافية» وطيّر آخر ورقة توت كانت تستر تطرفنا الثقافي، أو هكذا أعتقد.. وثمة أمور يجب أن نقف عندها ونحن نمارس مبدأ ثقافة التحليل في هذه المسألة وهي أمور ليست خاصة فقط بما حدث في ملتقى القصيم،إنما أمور يجب أن يراعيها الميدان الثقافي وهي:
هل يحق للمثقف المسئول أو المسئول الثقافي أن يجهر برأيه؟
أعتقد في المبتدأ أن مشاركة المسئول الثقافي برأيه الخاص في خلاف ثقافي هو أمر يفتقد إلى النضج الثقافي غالبا ويحول الاختلاف الثقافي إلى خلاف ثقافي فاحش وفاسد.
وستظل أفكار القصيمي ومنيف صورة من التحولات الثقافية في السعودية وهذه حقيقة ثقافية باقية،نختلف معهما أو نتفق لكن في ضوء ثقافة الاختلاف والحوار الثقافي،وأدبيات الحوار الوطني الذي يدعم ثقافة اختلاف المذاهب والمعتقدات.
لكن ما أثبته شاهد العيان أننا وقت الممارسة الحقيقية ضقنا بأفكار رجلين مجرد أفكار كالأفكار المطروحة في الطريق يعلمها البدوي والقروي، رجلان أصبحا في ذمة الله وهو الوحيد من يحاسب ويعاقب، ضقنا بهما لحد الخلاف الفاحش حتى حسبنا أنفسنا آلهة في الأرض تحاكم الموتى والأحياء.
لاشك أن من حق المثقف المسئول أو المسئول الثقافي أن يكون له رأيه وموقفه الثقافيين،لكن يعلم الجميع بما فيهم المثقف المسئول أن المسئولية الرسمية تحتم على المسئول الالتزام بالمحايدة والوقوف من الجميع نفس المسافة ولا يكون مع فريق ضد فريق سواء بالتلميح أو التصريح،وهذه هي الضريبة التي يدفعها كل مسئول حتى لا يؤثر رأيه على صناعة القرار من الآخرين وخاصة المنتفعين منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
كما إننا كمجتمع قد عانينا الكثير من مسألة التكفير والاتهام بالإلحاد،ولا أظن أن أي مسئول ثقافي مهما كان مركزه له الحق أن يُعيدنا جهارا نهارا،إلى زمن التكفير، وأن يُّنصب نفسه إلها يمارس حق التقييم العقدي لغيره ويتهم الآخرين بالخيانة الوطنية والدينية.
ولذلك لا يمكن أن نبرر الموقف الثقافي المتطرف لأي مسئول ثقافي باعتبار أنه يملك حق التصريح برأيه الثقافي؛ أو نبرأه من الخلاف الفاحش الذي قد يسبب الفتنة الثقافية بين المثقفين ويدعم التطرف الثقافي ويهدد السلم و التسامح الثقافيين في المجتمع،فربّ كلمة قسّمت المجتمع،وربّ كلمة أوقعت فتنة،و ربّ كلمة أودت بصاحبها إلى الهلاك.
ومن هنا يملك المجتمع مصادرة حق المسئول الثقافي في الرأي الخاص درا لفتنة الخلاف الفاحش، وإن كان المسئول الثقافي لا يراعي أدبيات هذه المسئولية فعليه العودة إلى صفوف المثقفين وترك المسئولية الرسمية، حينها من حقه أن يقول ما يريد لأن رأيه لن يؤثر على صناعة قرار.
إن ما سمعناه من بعض المثقفين القصيميين الدينيين يوقظنا من وهم التغيير الثقافي والتسامح الثقافي الذي ظننا أنه ساد في ظل خادم الحرمين الشريفين، لنكتشف أننا مازلنا تحت استعماره بوجوه مختلفة، ويعيدنا إلى المربع الأول.
إن القصيم كما يعلم الجميع «معقل الثقافة المحافظة» و»مسقط رأس» الكثير من علماء الدين الأفاضل الوسطيين والإصلاحيين، كما أنها مسقط رأس بعض رجال الدين الذين أفسدوا أفكار الشباب وتلطخت أيديهم بدماء هؤلاء الشباب الذين وقعوا ضحية في دوائر الفئات الضآلة بسبب أفكار ما أنزل الله بها من سلطان. ولذلك فإن الحكم على تحقيق وتحقق أي تغير وتغيير فكريين يجب أن يُلمس في المناطق المحافظة والمتطرفة لنقر بوجود تغيير ثقافي،لكن ما حدث في ملتقى القصيم وما سمعناه من مثقفينها يُشير إلى أننا فشلنا في إحداث أي تغيير ثقافي في هذه المنطقة سواء ما يتعلق بالتسامح الثقافي أو ثقافة الحوار مع الآخر الذي يتبناه «الحوار الوطني».
ليس هناك حرب بين الدين والأدب والفكر ويجب أن لا تكون بينهم حرب أو عداوة، فالتاريخ الفكري أثبت أن الأفكار التي تنفع الناس هي التي تُخلد وتؤثر في الناس، والأفكار التي لا تنفع الناس لا قيمة لها ولا تأثير وإن كانت ظواهر صوتية ،فالمرء يؤمن بما يتفق مع معتقده ويفيده ويكفر بما لا يتفق مع معتقده ولا يفيده، وثقافة الاختيار هي فطرية أكثر من كونها مكتسبة أو إجبارية.
بصرف النظر عن تقييم أفكار القصيمي ومنيف، والتي لا تحظى باهتمام أو تأثير في المجتمع السعودي ولا تمثل أي خطر للسلم الفكري والثقافي للمجتمع، ،فإن منع الحديث عنهما لا يعني فرض تغيبهما عن المشهد الثقافي أو التأثير الثقافي،قد تكون هذه الوسيلة ناجحة ما قبل زمن «كوننة العالم» و»ثورة تقنيات الاتصال ومحركات البحث عن المعلومة».
لكن الآن في ضوء «المعلومة مطروحة في قارعة الطريق» فإن المنع هو بمثابة طرفة من «يغطي الشمس بكفه وأصابعه متفرقة» ليمنع نورها،فممارسة المنع المادية والمعنوية أصبح جزءا من ثقافة التخلف البائدة.
إن عقيدة المرء ليس عطرا في قارورة نخاف عليه من التبخر لو رفعنا عنه السدّادة أو قطعة من الأسفنج تمتص كل غث تستقبله ،إنما هي قوة حماية وردع من كل فاسد.
فكل سعودي يملك من الوعي الديني ما يحميه من كل فساد أو فتنة تهدد دينه أو وطنه وليس في حاجة إلى أوصياء يأمرون باسمه وينهون باسمه،ويرثونه التخلف والرجعية ويحرضونه على الفتنة الثقافية.
) أعتقد أن ما فعله رئيس النادي الأدبي في القصيم يحتاج إلى مساءلة من الجمعية العمومية للنادي؛إلا في حالة لو أنه أحال أمر منع ورقتي القصيمي ومنيف إلى اللجنة العمومية وكان التصويت بالأغلبية أو الثلثين موافقة على المنع.
وإذا المنع قد تم دون هذه الآلية فهو يستحق المساءلة والإقالة وفق نصوص لائحة الأندية الأدبية.
إن الأندية الأدبية وفعاليات الملتقيات الثقافية مسئولة عن نشر ثقافة التسامح وثقافة الحوار مع الآخر والحوار مع المذاهب والمعتقدات الأخرى في المجتمع وفي أوساط المثقفين والشباب،لكن ما فعله ملتقى القصيم أنه كرس مفهوم «الإقصاء والتطرف الثقافيين» وهو تكريس يتناقض مع مشروع الحوار الوطني الذي يتبناه ويرعاه ولي أمرنا رائد الإصلاح والتنوير خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله لنا.
كما أن ما حدث في ملتقى القصيم أعاد تسليط الضوء مرة أخرى إلى مسألة افتقار الأندية الأدبية إلى «ثقافة صناعة الملتقيات الثقافية».
وأخيرا: سيظل كل من القصيمي ومُنيف من هذه الأرض ولا يستطيع أي إنسان تغير هذه الحقيقة، وأي تغيير جبري لهذه الحقيقية يخالف حقوق الإنسان،كما لا يستطيع أحد أن يجبر المجتمع على إقصائهما الثقافي.
وستظل حقيقة عقيدتهما هي ملك لله وحده علاّم الغيوب،العفو الكريم.
ولا يستطيع أي إنسان أن يدعي القدرة على «تفتيش قلبهما».
ولا يمكن لأحدنا أن يأمن على الدوام حقيقته، فالمؤمن يبات مؤمنا ويصبح كافرا والكافر ينام كافرا ويصبح مؤمنا.
ولا يدري الإنسان كيف تكون خاتمته،فحسن الخاتمة فضل من الله لا قدرة من قِبل الإنسان، والقلوب مقلبة على الإيمان والكفر.
«فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإيمان وأرزقنا حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، وأكفِنا شر أنفسنا وشر عبادك الضآلين».
وقفة:
نبارك للمثقفة المبدعة الشاعرة الدكتورة أشجان هندي على تكريمها وإلى المزيد من التوفيق والتكريم.
sehama71@gmail.comجدة