اعتادت الثقافات التقليدية على اتباع نمط الركود، والمحافظة على ما هو قائم منذ آماد طويلة، دون التفكير بتغييره، أو تطويره أو إعادة النظر فيما هو صالح منه، وما ليس بصالح. فالسير في طريق معتادة منذ أجيال أسهل كثيراً من ارتياد طرق جديدة غير مجربة، ومجابهة وعورة قد تستدعي التفكير في حلول لمشكلات لم تكن قائمة في الطرق المعهودة؛ ومن لم يستخدم عقله في ابتكار طرق الحياة وأساليب العيش فيها، يحسب أن الدماغ موجود لدى الإنسان لأغراض الترف، ولا يستخدم منه إلا الذاكرة فقط من أجل حفظ القصص والمرويات، وتعهد أماكن السكنى والعمل. نوصف بأننا محافظون. لكن هل المحافظة تعني إلغاء التفكير، وتجديد طرق العيش والعمل. كثيرون ممن يعيشون في هذه البلاد يعرفون أن أنماطاً قائمة من الحياة وتسيير العمل قد أدمنها الناس هنا، وآثر أصحاب القرار عدم تغييرها، لئلا يصدم الناس الذين تعودوا أنها هي الطرق الوحيدة الصحيحة.
لكني سأطرح مثالاً ربما يعرفه بعض من أولئك الكثيرين، وهي طريقة العمل في وزارة التربية والتعليم، وعلى وجه الخصوص في الإدارات المرتبطة بالأقسام النسائية وإدارات تعليم البنات. فهناك يجد المرء عقليات لا يدري أين تعلمت إدارة الأمور، أو ما يمكن أن يُسمى مجازاً إدارة. فلكل شخص من القائمين على الأمور منطقه الخاص، ولا يعترف بمنهج محدد في العمل، ولا بحق الآخرين في إنجاز أعمالهم. كل ما يملكونه من قدرات محصور في عبارات كنت أظنها قد اندثرت؛ يعطون معلومات غير صحيحة، ومن فرط تعودهم على عدم صحة معلوماتهم، لا يستغربون، ولا يعتذرون عندما يرون مدى الضرر الذي يلحقونه بالناس من فرط التأخير وتضييع الأوقات وتهييج الأعصاب. وهم في هدوء يحسدون عليه.
الرجال لا يعلمون ماذا يصنع قسم النساء، ولا قسم النساء يعلم ما يصنع القسم الآخر؛ كل يلوم الطرف الآخر، ويتهمه بالتقصير، ويضيع الناس بين هذا وذاك. ما يحدث في تلك الإدارات مأساة بكل ما تعني الكلمة من أبعاد. والأكثر تراجيدية أن المسؤولين الكبار فيها يعزّون المتضرر بأنه اقترب من الخلاص من تلك البلوى (باعترافهم): مضى الكثير وما بقي إلا القليل! وش نسوي؟ عقولهم صغيرة... إلخ من عبارات، دون التفكير في المحاسبة. مادام أصحاب الشأن يعرفونها، فلماذا لا يغيرون فيها، أو يطرحون سبل حلها في ندوات عملية يؤخذ بتوصياتها؟ لديهم أجهزة، ولكنها لا تعطيهم إلا ما يريدونه، ومتى ما أرادوه.. صرف مالي ومكاتب فسيحة وتجهيزات، ولكن البشر غير مؤهلين لعمل منظم. لماذا لا يستفيدون من تجارب إدارات حكومية أخرى، ولماذا لا يستفتون معهد الإدارة العامة في كيفية إنقاذهم؟
لن أقارن أي مؤسسة حكومية مع شركات كبرى مثل أرامكو أو سابك، فتلك مقارنة ظالمة بين نظامين مختلفين، لكن من يراجع أجهزة الداخلية (الأحوال المدنية والجوازات على سبيل المثال)، ويكون قد راجعها قبل سنوات؛ سيكتشف الفرق الكبير جداً بين الوضعين في الزمنين المختلفين من جهة، وبينها وبين إدارات التعليم من جهة أخرى. استخراج بطاقة أحوال جديدة أو تجديد بطاقة قديمة (وهي قضية مهمة فيها إعطاء هوية وطن) لا تأخذ أكثر من يومين، بينما طلب خطاب تبيّن فيه إدارة تعليم موقفها بشأن أحد منسوبيها يستغرق تسعة أشهر. هل هذا منطقي أو طبيعي؟ أم هو إيمان بتلك المقولة: الله لا يغير علينا! أو: أمر الله من سعة!
لا.. في هذه نطلب أن يغير هذه الأحوال، ويكنس خلايانا العصبية التي لا تتجاوب مع حالات التغيير الطبيعية والضرورية.
الرياض