إنه لا مثيل لغرابة هذا الكائن المهزول المسحوق بين السماء والأرض، إذ إن كل فرد من أفراد هذا الجنس البشري التائه الحائر البائر الأحمق المجنون العابث المضطرب منذ الأزل، يزعم -غالباً- أنه أفضل من غيره في كلِّ شيء، فدينه حق، ومذهبه سليم، وعرقه رفيع، ومنطقته مقدسة، وفكره صواب لا غبار عليه إطلاقاً، بل لا يمكن أن يكون عليه غبار أبداً.
أما بقية أفكار ومذاهب وأديان وقناعات مليارات البشر، فهي في نظره ضلالات مبينة، وكذلك أعراقهم وأوطانهم وأصولهم ومناطقهم، فكلها عنده أقلّ قيمة ومنزلة وقدسية من نسبه وأراضيه!
هكذا هو الإنسان في مختلف العصور؛ وليته اكتفى بذلك، بل ذهب يقاتل غيره، إما بحثاً عن الاعتراف به في حال كونه ضعيفاً مهمّشاً لا قيمة له، أو طغياناً واستكباراً ورغبة في فرض مزيد من نفوذه في حال كونه قوياً بارزاً متنفذاً.
إن ذوي الإنصاف والاعتدال والحياد والتوازن في الحكم على أمور المختلفين معهم أو عنهم قلّة. وهذا هو سبب شقاء البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.
إنه كلما زاد عدد المتوازنين والمحايدين والمنصفين في الحكم على الأمور، والقادرين على النظر في مذاهب وأفكار ورؤى وخصائص الآخرين بتجرد من عواطف العصبيات الدينية أو القبلية أو المذهبية أو العرقية أو المنهجية أو الفكرية أو القومية أو الجنسية أوالطبقية، أو غيرها من أشكال وألوان العصبيات المقيتة التي تتعدد وتختلف أزياء لابسيها.. إنه كلما زاد عدد أولئك النوادر الأنقياء ارتقت معهم الإنسانية وحلَّقت أطيارها في رحاب السلام والمحبة والتعايش والسعادة والصفاء والوئام.
العصافير تحلق كل يوم في الفضاءات، تاركة أعشاشها وفراخها، بحثاً عن أقواتها وأرزاقها، التي قد تكون بعيدة جداً عنها. وكذلك العقول السويّة، يجب أن تحلق في سماوات المعرفة بحثاً عن أقوات الأرواح وأرزاق الأذهان، مهما كانت بعيدة عنها، فقد يجد الإنسان العاقل المميز السوي غاياته الثقافية وضوالَّه المعرفية في مناطق أخرى بعيدة، تختلف أديانها ومذاهبها العقائدية أو رؤاها الفكرية أو مرتكزاتها الأخلاقية وغيرها، عن السائد في مجتمعه والمسيطر عليه من الثقافات المألوفة المتوارثة.
الإنسان المثالي -في نظري- هو الذي يحمل سلته الثقافية معه دائماً، ويتجول بها في أسواق ثقافات الشعوب، متنقلاً بين دكاكينها المتمثلة في المجالس والمنتديات الثقافية، والندوات والمحاضرات والمؤتمرات والملتقيات، والكتب والمؤلفات العلمية، والأفلام والمقاطع الصوتية، والرسومات والمنحوتات والصور والخزفيات وما يدخل في حكم التصوير والفن التشكيلي؛ بالإضافة إلى الدواوين الشعرية والروايات الأدبية، وغيرها من المصادر المسموعة أو المشاهدة أو المقرؤوة…
فيختار من البضائع المعرفية المعروضة في أسواق الفكر والثقافة ما يناسبه ويقنع عقله من البضائع المعلوماتية المختلفة، ويضعها في تلك السلة بتجرد وحياد، دون أن يلتفت إلى العوامل التي تصرف المتعصبين وغير المحايدين عن الأخذ بالجميل أو المفيد من نتاج غيرهم.
وإذا اكتشف يوماً أنه وضع في سلته المعرفية معلومة خاطئة، أو معلومة ظهر له -من خلال حواره مع غيره أو بحثه عنها- ضعفها أو بخس ثمنها، أو أنها تتصادم بقوة مع قناعة أخرى من قناعاته العريقة العتيقة الأثقل وزناً منها، وجب عليه إخراجها -أي المعلومة- ورميها فوراً في سلة المهملات دون تردد، مع ضرورة الاحتفاظ بسلة المهملات أيضاً؛ فالأفكار والقناعات تتغير باستمرار، وربما احتاج الإنسان يوماً الرجوع إلى معلومة قديمة ألقاها في سلة مهملاته، دون إدراك لقيمتها الحقيقية الثمينة!
ولذلك أقول دائماً لرفاقي: كنتُ في السابق دوغمائياً متصلباً راديكالياً متطرفاً جداً دينياً وفكرياً، لا أضع في سلتي إلا ما يتفق تماماً مع المألوف أو السائد أو المقدس الموروث في مجتمعي، ثم أصبحتْ سلتي الثقافية -بعد انعتاقي وكسري لبوتقة انغلاقي- مليئة بما لذّ وطاب من المعارف الثقافية المتنوعة الاتجاهات، والأفكار والقناعات المختلفة المشارب.
عزيزي المؤدلج المتعصّب المتصلّب المتنطّع: حاول أن تتحرر.. جرب أن تفكر خارج الإطار.. جرب أن يغرد عقلك خارج السرب.. ما هي المشكلة عندما تجد حقيقة قضية ما، أو الإجابة عن سؤال ما، أو معلومة جديدة سليمة في موضوع ما، عند قوم آخرين يختلفون عنك، أو بعيدين عن موروثاتك، أو عند فرد من أفراد مجتمع آخر؟!
لابد -عند طه حسين- أن يتجرَّد الناقد من كل شيء، وأن يستقبل النصَّ وهو خالي الذهن مما سمعه عنه، وأن يخلي نفسه من القومية ومن الديانة والطائفية.
وبناء عليه أو قياساً عليه أقول: لابد أن يتجرد الإنسان من كلِّ شيء، وأن يدخل تلك الأسواق الثقافية التي أشرتُ إليها أعلاه، وهو خالي الذهن من كل ما سمعه أو قرأه أو شاهده عنها.
مشكلة غالب البشر وطامتهم الكبرى، التي ساهمت في إشعال وتأجيج نيران شقائهم وحروبهم وأراجيفهم وعذاباتهم وترهاتهم وسخافاتهم ومعاركهم التي لا تنتهي، أن الواحد منهم إذا رفض قوماً أو كره مذهباً أو عادى مجتمعاً لأي سبب أو أسباب، فإنه يرفض كلَّ ما عند أولئك القوم وكلَّ ما في ذلك المذهب أو المجتمع جملة وتفصيلاً!
والمشكلة الأعوص والكارثة الأفظع، تكمن في عدم تفريق كثير من هذه الكائنات البشرية بين النقد والإساءة، فعندما تنتقد قناعة من قناعاتهم، يتهجمون على شخصك، متوهمين أنك تسخر منهم.
