ذات صيف، كنت في زيارة عملية إلى إحدى الجامعات البريطانية، وسكنت في منزل عتيد، وكانت جارتي عجوز إنجليزية تخرج كل يوم في حديقة منزلها، ثم ترمقني بنظرات الشك والريبة دون أن تنبس ببنت شفه، حتى قررت ذات يوم أن تبدأ الحديث، وتطرح التساؤلات حول هذا الجار الغريب، ذي السحنة المختلفة، وبعدما عرفت الكثير عن صاحبكم، سألتها بدوري عما تعرف عن بلدي، وعندها أسهبت في الحديث عن خزعبلات لم تعرض حتى في الأفلام المسيئة للعرب، وكان حديثها منصبا حول نقطتين، أولاهما تتعلق بالترف الذي يعيشه سكان بلاد النفط، وثانيهما يتعلق بسلاطين العرب- هكذا تسميهم-، أي حكام بلاد النفط، والذين - حسب رأيها- يملكون عشرات القصور ومئات الجواري!، ويعدمون الناس بالعشرات يوميا عند أدنى مخالفة!، فهل يا ترى تعرف جارتي العجوز تاريخ بلدها؟!.
الغريب أن الشعب الإنجليزي - وعلى الرغم من رقيه وتحضره - هو أكثر الشعوب العالمية انتقادا للعرب، وبالذات عرب الخليج وحكامهم، هذا مع أن ملوك بريطانيا - والذين ليس لهم سلطة حقيقية منذ زمن - يعيشون ترفا هائلا على حساب دافع الضرائب البريطاني، ولست هنا بصدد التفصيل عن عدد القصور التي تقيم بها الملكة الحالية على مدار العام، أو عن البروتوكولات المعقدة لها، منذ استيقاظها من النوم على صوت العازف الاسكتلندي، وتحضير قهوتها الطازجة من محلات هارودز، مرورا ببروتوكولات مقابلة الضيوف، وتناول الوجبات الرئيسية، وغيرها مما لا تسمح الارستقراطية البريطانية بالتخلي عنه تحت أي ظرف، ولذا فإنني استغرب أن يتناسى أحبتنا الإنجليز كل هذا الترف الهائل لملوكهم، ثم ينتقدوا الأنظمة الملكية في البلاد الأخرى، ولئن كان هذا ما يحدث حاليا، فإن الماضي البعيد مليء بما لا يصدقه عقل عن ممارسات بعض ملوك وملكات بريطانيا العظمى، والآن دعونا نستعرض حياة واحد من أشهر الملوك البريطانيين، عندما كان الملك هو الحاكم الفعلي للبلاد.
حكم الملك هنري الثامن بريطانيا لمدة ثمانية وثلاثين عاما (1509- 1547)،، ولقب نفسه «هنري الثامن بنعمة الرب، ملك إنجلترا وفرنسا، المدافع عن العقيدة، لورد إيرلندا، الرئيس الأعلى لكنيسة إنجلترا في الأرض!». وقد كان دكتاتورا بامتياز، حكم بالحديد والنار، وقتل عددا كبيرا من الناس تجاوز الاثنين وسبعين ألف إنسان، كان معظمهم من المفكرين ورجال الدين، الذين عارضوا سياساته المتهورة، وإفراطه في الملذات، وقد مات نتيجة السمنة الزائدة، وذلك بعد أن بنى أكثر من ثلاثين قصرا، وتزوج ست مرات، هذا عدا مئات العلاقات الغرامية خارج إطار الزواج، وبلغت به القسوة حد أنه أعدم اثنتين من زوجاته بطرق بشعة، ولم يكن هو الوحيد في هذا المسلك، فقد سبقه وخلفه ملوك وملكات مارسوا قريبا من هذا السلوك، ومع ذلك فإنك نادرا ما تجد مواطنا إنجليزيا ينتقد النظام الملكي البريطاني علنا، فنسبة المؤيدين له تقارب الثمانين في المائة حتى يومنا هذا، فهل يا ترى تعرف جارتي العجوز كل هذا؟.
فاصلة: «الجذور الحقيقية لكل الخطايا هي الجهل».. مولي ايفينز.
ahmad.alfarraj@hotmail.comتويتر @alfarraj2