في هذه الليالي المباركة العشر، وفي إطلالة كل فجر، يحرص المرء على الشفع والوتر، طمعاً بما عند الله، وتقرباً إليه سبحانه وتعالى لعله يغفر ذنوبه، ويستر عيوبه، ويزيده من نعمائه، ويسبغ عليه من آلائه، فما قصد الحاج هذه البقعة المباركة إلا راجياً من الله الثواب، وطالباً حسن المآب، ورحمة الله واسعة، والناس برجاء عفوه متعلقون، ولغفرانه متطلعون، فاللهم لا ترد حجاج بيتك خائبين واجعلهم لدينهم حافظين، ولخيرك شاكرين.
نعلم جميعاً أن عدداً من الحجاج قد تركوا مصالحهم الدنيوية، وجاؤوا ليتفرغوا لعبادة الباري عز وجل، ولينقلوا أجسادهم وأفكارهم ومراميهم إلى جهة غير الجهة السابقة، ولم يعودوا يفكرون في اللاحقة، إلا نفحة من جنات النعيم، وتوفيق لما بقي من العمر في هذه الدنيا الفانية، مؤثرين عليها الباقية، يسارعون إلى الخيرات ويجتهدون في الصلوات ويكثرون من العبرات، فيالهم من محظوظين ولشرع الله مستجيبين.
والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وهم في ذلك فئات فمنهم من هو ميسور الحال، أخذ من فضل ماله ليقضي ركناً من أركان الإسلام، أو ليعيد الحج بعد حجة الفرض طمعاً في المزيد من الخير، أو أنه جاء ليحج عن والد أو والدة أو قريب أو صديق، وهو في جميع أحواله مأجور عند الله بإذنه ومنه وكرمه، ومنهم من استطاع أن يجمع من ماله ما أمكنه معه دفع نفقة الحج، لكنه ليس فضل مال، وهذا مأجور بإذن الله ولعل ذلك يكون فاتحة خير له في ماله، وسعة في رزقه، وثواباً عند ربه.
وهناك حاج قدم أو سيقدم إلى مكة المكرمة، وقد باع شيئا من ممتلكاته، واستدان من قرابته، أو جيرانه، وقد دفعه إلى ذلك شوق متدفق، ورغبة جامحة، ومحبة صادقة ووله للوصول، وتحقيق الغاية، والرغبة في الخير، والجنوح عن الشر، وهو في ذلك صادق مخلص متلهف، راجياً ما عند الله، وهو في ذلك مأجور إن شاء الله، إلا أنه قد حمل نفسه عبئاً ليس بالضرورة حمله، وأرهق نفسه بأمر جعل الله له فيه سعة، فالحج لمن استطاع إليه سبيلا، والاستطاعة تشمل المال، والصحة وكذلك الالتزام الشديد بعلاج مرض لا يستغنون عنه، أو غير ذلك من الضرورات الملحة، لكن المرء يرجو لهؤلاء وأولئك القبول، وأن يمنحهم على قدر نياتهم، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وأن يرفع بما فعلوا درجة لهم عنده، إنه سميع مجيب.
المسلمون الذين لم يتيسر لهم الحج، أو أنهم قد أدوا تلك الفريضة العظيمة بحمد الله ومنته، لا شك أنهم سوف يجتهدون في هذه العشر المباركة اجتهاد المتجه إلى ربه، الصادق في توجهه، المغتنم هذه الأيام الجليلة لعل دعاء يوافق باباً مفتوحاً، فينفذ منه الدعاء، فيعم الخير، ولهذا فإن تلمس أيام الاستجابة وساعاتها، والحرص على اغتنامها مكسب للعبد، ينال به فضل الله إن شاء الله.
عندما يحج الحجيج، أو يغتنم المغتنم هذه الأيام المباركة فيدعو الله صادقاً مخلصاً فهو يأمل من الله أن يهديه سواء السبيل، ولا شك أن ذلك سوف يصرفه بحوله وقوته عن بعض الدروب غير الحميدة التي كان يسلكها، لكن ليته يضيف إلى ذلك تغيراً ملموساً في سلوك المعاملة، فيحرم الكذب والنفاق على نفسه، ويترك الغيبة والنميمة، وأكل أعراض الناس، ويخاف الله في التعامل المالي ويخلص في عمله اليومي، ويعطي العمل حقه ولا ينقصه حتى يحلل ما أخذ مقابله من مال، ويتقن عمله لأن الله يحب أحدنا إذا عمل عملاً أن يتقنه، فإن كان الأمر كذلك فلا شك أن معطيات الإنتاج سوف تتغير، وبها يتغير الوضع الحقيقي للأمة الإسلامية.