** يختصر مغربٌ إثنينيٌ مع العلامة الشيخ محمد العبودي أيامًا من البحث في قضايا تطرحها جلسته العامرةُ المتنقلةُ بين التأريخ والجغرافيا والأمثال والأنساب واللغةِ: محكيِّها وفصيحِها، وهو ما يشيرُ إلى الدور المهم الذي تؤديه المجالسُ العلميةُ المفتوحةُ الغائبةُ عن الرصد والتحليلِ، ولو عاد العمرُ بصاحبكم لوفرَ على نفسه أوقاتًا من الدرس والبحث، ولكان قد دنا أكثرَ من هذه اللقاءات الممتلئةِ معلوماتٍ ونقاشاتٍ وتداخلاتٍ واختلافات.
** لن ينسى في طفولته» دكان الشيخ علي الزامل أحدِ أفذاذ النحو والتفسير-1418هـ» في وسط سوق عنيزة، ولم يكن فيه غير سجادة يفترشها الشيخُ -رحمه الله- داخل الدكان و»عتبةٍ» يجلس عليها مريدوه، وكان والده -حفظه الله- أحد المنتظمين فيها، ولا يذكر أنه وعى شيئًا مما يدور؛ إذ كان طفلاً، وقد خلَّد جلسةَ هذا الدكان شاعرنا العربيُّ الشامخ «سليمان العيسى -شفاه الله- في قصيدته «العولمة ودكان الشيخ علي» بعد قراءته تقديم الدكتور عبدالله الغذامي لكتاب صاحبكم «دور العولمة في التحول التربوي»، والغذامي هو نفسه مَن وسم أستاذَنا الراحلَ عبدالرحمن البطحي-1427هـ بـ»سيد المجالس» حيث استمرت جلسته اليوميةُ نصف قرن؛ عليه رحمةُ الله.
** المجالسُ سمةُ زمنٍ مضى وزمنٍ لما يزلْ وما الظنُّ أنه سيزول، ومرتادوها من متوسطي وكبار السن؛ فالشباب منشغلون بركض الحياة كما لُهاث التقنية، وربما كانت مثلُ هذه المجالس متنفسًا لهم من وعثائِهما لو اقتنعوا بحدواها، ولا يلامون لو لم يفعلوا؛ فالزمنُ لا يأذن بمراجعةٍ، كما أعمارهم لا تعتني بتراجع، وهما «المراجعة والتراجع» ما نفتقدُه في بعض جيل الكبار الذين لا يؤمنون بإعادةِ القراءة والاستقراء، وربما انتشى أحدهم بأن رؤيته التي اعتمدها قبل عقود تحققت؛ فكأنها نبوءةُ «نوسترا داموس أو جورج أورويل».
** ثقافةُ المجالس لا شأن لها برسميات الثقافة وبرامجها وحدودها وقيودها، ولا تكلفُ غيرَ أريحيةِ صاحبها، ويؤُمُّها ثللٌ فيهم من لا نراهم في المنابر؛ مُلئوا علمًا وسكينةً ووعيًا يُبرزون وجهًا قصيًا لا يكادُ يُرى، وإذا انضمت إليها المنتديات والمواقع والمدونات والصالونات الخاصة «الحقيقيةُ والافتراضية» أدركنا أن أجهزة الثقافة الرسمية عبءٌ مادي وإداريٌ ذو عوائدَ منخفضةٍ وقد آنَ تأميمُها.
** تخطت الثقافةُ أنظمة الوصاية فقد ولدت قبلها ولن توأد بها، ويبقى الصوتُ المعارضُ لحريتها مسكونًا بأخيلة الوهم التي تحققُ له دور البطولة في مسرحيات الإعراضِ والاعتراض.
** بقيت المجالسُ الخاصةُ الواقعية في عالمها الرائق الراقي؛ يعيبها إلا توثيقَ لمضامينها، ولو تم ذلك لوجدنا فيها خلاصاتٍ مركزةً لمعارف ذويها وخبراتهم، أما المجالس التقنيةُ في العالم الافتراضي فلها «مشَّاؤوها»، وقد بدأت في الظهور المقنّن لتملأَ فراغَ غياب كثيرٍ من الرموز عن مجالسهم المتمناة وإن لم تعوض تماسَّ الأيدي وتقبيل الهامات.
)) المسافات تُختصر.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon