من الثوابت البشرية المتواترة عند كل الأمم، وفي كل الثقافات، أن الناس مختلفون في طبائعهم وفي سماتهم، مختلفون في أخلاقهم وفي علاقاتهم، وأن النفوس السوية تطرب وتأنس لسماع الكلم الطيب، وتنفر وتأنف من سماع الكلم القبيح، الكلم الطيب يريح النفس ويجعلها سعيدة مستبشرة، والكلم القبيح يحزن النفس ويجعلها كئيبة مضطربة.
ولهذا الاختلاف جملة من الأسباب، منها ما هو وراثي، ومنها ما هو مكتسب بالتنشئة، ومنها ما يعود إلى البيئة الجغرافية التي يعيش فيها الفرد، ومن أوضح الأمثلة على تأثير البيئة على شخصية الإنسان وأكثرها شهرة قصة علي بن الجهم والخليفة العباسي المتوكل.
عاش علي بن الجهم في بدء حياته في بيئة صحراوية قاسية، جافة مناخيا وعاطفيا، فصور الإثارة الوجدانية فيها محدودة، بل تكاد تكون صور الجمال معدومة، ولهذا الجفاف تأثيره على الصور الذهنية التي يستدعيها الإنسان في عرض أفكاره وفي التعبير عن مشاعره ووجداناته، فعلى الرغم من شاعرية علي بن الجهم الفذة إلا أن بيئته الصحراوية المحدودة الفقيرة الجافة لم تسعفه في الكشف عن شاعريته ورقة إحساسه، إلا بما تجود به معطيات هذه البيئة الفقيرة بمثيراتها سواء في كمها أو نوعها.
فعندما ضاقت الحال بعلي بن الجهم، لم يجد أمامه إلا أن يقصد المتوكل عله يجود عليه بما يساعده على الخلاص من ضيق الحال التي يشكو منها، ذهب إلى المتوكل مشحونا بعاطفة جياشة، خذلها وشوه صدق مشاعرها، وخانها في التعبير عن حسن المقاصد، تلك الصورة الذهنية التي اكتسبها من محيط بيئته، حيث ضمن تلك الصور في البيتين اللذين أنشدهما أمام المتوكل، يقول مخاطبا المتوكل:
أنت كالكلب في حفظك للود
وكالتيس في قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلا كثير الذنوب
عرف المتوكل المقصد النبيل لعلي بن الجهم، وحسن نيته، وأن ما جاد به إنما هو انعكاس للبيئة الخشنة وما فيها من مثيرات لا يعرف غيرها، ولكن وعلى الرغم مما يبدو من خشونة اللفظ في البيتين، بل بذاءته في حق من يعد خليفة للمسلمين، حيث المقام الرفيع الكريم، فكيف يشبه بالكلب والتيس والدلو؟ وكلها تشبيهات أقل ما يقال عنها أنها بذيئة لا تليق بعامة الناس فضلا عن أن تقال لخليفة المسلمين، ولهذا التمس المتوكل لعلي بن الجهم العذر، وأمر له بدار على ضفاف نهر دجلة، دار كثيرة مثيراتها، متنوعة خيراتها، يحيط بها الجمال من كل مكان، وبعد ستة أشهر من الإقامة في تلك الدار، أمر المتوكل أن يؤتى بعلي بن الجهم، فلما جاء أنشد علي بين يدي الخليفة أبياتا في قمة الروعة، جمالا وجلالا، وحسن اللفظ، وصفا وتعبيرا، ومما جاء في تلك القصيدة الرقيقة:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرا على جمر
وجوه بني العباس للحكم زينة
كما زينة الأفلاك بالأنجم الزهر
تغيرت مثيرات البيئة من حول الشاعر علي بن الجهم، فتغيرت تبعا لها مشاعره وأحاسيسه، وترجم ذلك بعبارات وألفاظ في منتهي الرقة والعذوبة والجمال.
وكما أثرت البيئة الجغرافية، تؤثرالبيئة الأسرية، بل إن أثرها أشد وقعا وحدة لكونها ملازمة للفرد عبر مراحل نموه المختلفة، فالفرد الذي يستمرئ البذاءة لفظا ويعتمدها نهجا في سلوكه وتعامله يدل على أنه تعرض لتنشئة أسرية مضطربة غير سوية طبعته بهذه السمة التي تنفر منها النفوس الكريمة وتأباها خلقا وطبعا.