في نهاية الحديث، الأسبوع الماضي، أشرت إلى أن حديثي هذا الأسبوع سيكون عن فائزتين بالجائزة فقط لما لهما من جهود علمية مميَّزة، ولما في حياتيهما من عبر ودلالات. وهاتان الفائزتان هما البروفيسورة جانيت راولي، الأمريكية الجنسية، التي نالت الجائزة في الطب عام 1408هـ/1988م، وموضوعها ذلك العام “سرطان الدم”
. والبروفيسورة كارول هيلنبراند، البريطانية الجنسية، التي نالت الجائزة عام 1425هـ/2005م في فرع الدراسات الإسلامية وموضوعها، ذلك العام، “الدراسات التي تناولت دفاع المسلمين عن ديارهم في القرنين الخامس والسادس الهجريين”.
وُلِدت البروفيسورة راولي في نيويورك عام 1343هـ/1925م. وتَفَّوقت في دراستها وهي ما تزال صغيرة السن؛ بل طفلة، إلى درجة أن جامعة متشجان قبلتها مجاناً في برنامجها الخاص بالمُتفوِّقين قبل أن تكمل دراستها الثانوية. وكان عمرها حينذاك خمس عشرة سنة. وبعد قضائها سنتين في تلك الجامعة انتقلت إلى جامعة شيكاغو حيث حصلت على بكالوريوس في الفلسفة بتفوُّق وعمرها تسع عشرة سنة. وبعد ذلك بعامين حصلت على بكالوريوس ثان في العلوم. وبعد عامين آخرين نالت الدكتوراه في الطب. ثم أمضت فترة زمالة في جامعة أكسفور البريطانية. وسرعان ما شغلت مناصب علمية مُهمَّة في عدة مستشفيات ومراكز بحوث، وأصبحت - سنة 1397هـ/1977م - أستاذة كرسي بلوم - رايز بقسم الطب وقسم الوراثة الجزيئية وبيولوجية الخلية في جامعة متشجان. وقد أجرت سلسلة من البحوث الرائدة حول سرطان الدم وسماته وطرق تشخيصه وعلاجه. وكانت لها الريادة في اكتشاف علاقة الكروموسات بسرطان الدم والأورام غير الحميدة الأخرى في سبعينيات القرن الميلادي الماضي؛ وذلك في وقت لم يكن فيه أحد يرى وجود تلك العلاقة. ثم أجرت سلسلة من البحوث الرفيعة المستوى لاكتشاف المُورِّثات المسؤولة عن سرطان الدم، وبَيَّنت أسسه الوراثية والجزيئية. وبذلك أَسَّست علماً جديداً في وراثة الأمراض السرطانية وتشخيصها، ومن ثَمَّ علاجها. وقد شاركت في كثير من الهيئات والجمعيات المُهمَّة بالطب الوراثي والأورام غير الحميدة، كما شاركت في هيئات تحرير مجلات علمية وطبية.
وكان من التقدير لإنجازات البروفيسورة راولي العلمية الرائدة أن مُنحت - إضافة إلى جائزة الملك فيصل العالمية - جوائز رفيعة المستوى. ومن ذلك منحها جائزة لاسكر الشهيرة في الطب، التي تُسمَّى “نوبل الأمريكية”، وميدالية بنجامين فرانكلين للإنجازات المتميِّزة في العلوم، وجائزة جروبر في علم الوراثة. وفي عام 1420هـ/1999م قَلَّدها الرئيس الأمريكي الميدالية الوطنية للعلوم؛ وهي أكبر تقدير علمي أمريكي، كما قَلَّدها في سنة 1430هـ/2009م ميدالية الحُرِّية؛ وهي أكبر تقدير مدني أمريكي. وإضافة إلى ذلك مُنِحت عِدَّة زمالات شرف في المؤسسات العلمية الكبرى؛ مثل الأكاديمية الوطنية للعلوم، والأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم. ومنحتها عِدَّة جامعات درجة الدكتوراه الفخرية في الطب والعلوم.
ولَعلَّ مما يلفت النظر في سيرة البروفيسورة راولي - إضافة إلى نبوغها المبكر وعظمة إنجازاتها والتقدير الذي حصلت عليه بجدارة - أنها تَمكَّنت ببراعة فائقة أن تُوفِّق بين عملها؛ طبيبة للأطفال المُتخلِّفين عقلياً، وباحثة وأستاذة جامعية تُدرِّس أمراض الجهاز العصبي، وأُمًّا لأربعة أطفال. وأكثر من هذا أنها حَقَّقت أعظم اكتشافاتها؛ وهي تعمل في منزلها، ولم تَتفرَّغ تماماً للبحث العلمي الذي نالت بإنجازه ما نالت من تقدير وتكريم إلا بعد أن بلغ أصغر أولادها الثانية عشرة من عمره.
أما البروفيسورة كارول هيلنبراند فَوُلِدت في بلدة سزري ببريطانيا عام 1362هـ/1943م. وقد شُغِفت بمعرفة اللغات؛ وهي ما تزال في مرحلة الطفولة. وشَبَّت على ذلك الشغف، فدرست - إضافة إلى لغتها الأم الإنجليزية - الفرنسية والألمانية واللاتينية والرومانية القديمة في جامعة كيمبردج. وكانت تلك المعرفة مما ساعدها في الحصول على وظيفة إدارية في وزارة الطيران البريطانية. وبعد زيارة للمنطقة العربية وما جاورها من المناطق الإسلامية الأخرى وجدت نفسها مندفعة إلى تَعلُّم لغات هذه المنطقة فعادت إلى مقاعد الدراسة وتَعلَّمت العربية والتركية حتى أجادتهما وحصلت على الماجستير في الدراسات العربية والتركية من جامعة أكسفور. وشاء الله أن يَتزوَّجها هيلينبراند، العالم المشهور بتاريخ الفن والعمارة الإسلامية، فسافرت معه - أواخر الستينيات من القرن الميلادي الماضي - إلى إيران حيث مكثا عاماً هناك بحث هو خلاله الفنون والنقوش والمنمنمات الإسلامية وتصميم المساجد والمدارس القديمة، وتَعلَّمت هي اللغة الفارسية، كما تَعرَّفت على أنماط حياة المسلمين وأفكار علمائهم القدامى أمثال أبي حامد الغزالي، رحمه الله، ونتج عن ذلك أن شُغِفت بحضارتهم شغفاً عظيماً. فعادت مَرَّة أخرى، إلى مقاعد الدراسة في قسم الدراسات الإسلامية واللغة العربية بجامعة أدنبرا، التي بدأ تدريس هذه اللغة فيها قبل أكثر من خمسين ومئتي عام. وهناك حصلت على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي في القرون الوسطى. ثم عُيِنت محاضرة لتدريس العربية والتاريخ الإسلامي في ذلك القسم حتى مُنِحت كرسياً خاصاً في هذا التاريخ.
ولقد ساعدها جمعها بين تَخصُّصها في ذلك التاريخ وتَمكُّنها من إجادة عدة لغات - من بينها العربية والفارسية والتركية - على امتلاكها ميزة فريدة جعلتها تتناول التاريخ الإسلامي من منظور أكثر شمولاً وعمقاً؛ معتمدة على مصادر كثيرة متنوعة. وقد رأت أن ما نُشِر عن تاريخ حروب الفرنجة لبلاد المسلمين - أو ما سُمِّي بالحروب الصليبية - في أوروبا يُعبِّر من وجهة نظر أوروبية. وهذا ما أوجد لدى كثير من الغربيين نظرة غير منصفة إلى الإسلام والمسلمين. ولذلك أخذت تبحث في تاريخ الإسلام بموضوعية وحياد. وظَلَّت طوال ربع القرن الماضي تلقي محاضراتها وتبدي نتائج دراساتها المتعلِّقة بتاريخ الحروب المشار إليها، ودفاع المسلمين عن ديارهم. وقد ألقت تلك المحاضرات في أمكنة مُتعدِّدة من بريطانيا، وفي أقطار أخرى بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال؛ إضافة على عدد من الجامعات العربية في مصر وسورية والأردن واليمن وفلسطين المحتلة. وألقت، أيضاً، سلسلة من المحاضرات في أوروبا وأمريكا عن تاريخ القدس وعن الإسلام والفكر الإسلامي. وكثيراً ما كانت تلقي محاضراتها باللغـة التي يَتكلَّم بها الحاضرون أو أكثرهم. ولم يقتصر نشاطها على إلقاء محاضرات في المؤسسات الأكاديمية؛ بل امتد إلى أجهزة إعلام مُتنوِّعة في طليعتها التلفاز. على أن ذروة إبداعها في مجال البحث التاريخي هي كتابها القَيِّم، الذي نالت به جائزة الملك فيصل العالمية؛ وترجمة عنوانه الحروب الصليبية: رؤى إسلامية، الذي أصدرته جامعة أدنبرا؛ مكوَّناً من 648 صفحة تدعمها مئات المراجع وأكثر من 540 صورة وشكل توضيحي. وكان هدفها الأساسي من تأليفه تحقيق توازن في النظرة إلى تلك الحروب، وإيضاح ما خَلَّفته من أثر في الماضي والحاضر على العالم الإسلامي؛ عسكرياً وثقافياً ونفسياً. وكان من البديهي أن يسوء كتابها الصادق الدقيق حفنة من الحاقدين على الإسلام فيتهموها بالتبعية لمن أسموهم “أسيادها المسلمين”. لكنها رأت ذلك وساماً على صدرها، وأسعدها ما نشرته عنها وعن كتابها عشرات المجلات العلمية المرموقة في مجال تخصُّصها. ومن ذلك ما جاء في مجلة الدراسات الإسلامية، التي تصدرها جامعة أكسفور البريطانية بالتعاون مع جامعة ستانفورد الأمريكية؛ وهما من أعظم جامعات العالم؛ إذ قالت عن الكتاب: “إنه كتاب عظيم وكنز غال، لما فيه من ثروة معلومات لم يكن لأحد في الغرب أن يعرفا بدونها”.
ومن الجدير بالذكر أن البروفيسورة هيلنبراند منحتها ملكة بريطانيا، عام 2009م، وسام الإمبراطورية البريطانية برتبة ضابط تقديراً لجهودها الكبيرة في مجال التعليم العالي. وكان كاتب هذه السطور قد قَدَّمها عند تَسلُّمها لجائزة الملك فيصل العالمية بقصيدة من 21 بيتاً مطلعها:
هَاتفٌ من جََنبات أدنبرا
تَلَّني رجْعُ صَداه لِلوَرا
ومنها عن تلك الفائزة الكبيرة:
وهيلنبراند مُستشرقةٌ
شَهدت أَنملُها فيـما جَرَى
بَحـثُّـهــا ازدان فـَـأَوفى أَحـــرفـــاً
وتَسامى فــي رُؤاه أَسطرا
قالت الصدقَ ولم تَحفَلْ بمن
بَاع في سُوقِ التَّجنِّي واشترى
والقصيدة منشورة ضمن مجموعة شعرية عنوانها في زفاف العروس.
وَفَّق الله الجميع لما فيه الخير.