طوتك يا سعد أيام طوت أمما
كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر
الإنسان الذي له مكانة عالية في نفوس أسرته ومجتمعه إذا خلت من شخصه داره، وغاب جسمه عن الوجود، فإن ذكره الطيب وأصداء نبرات صوته ترن في الأذان التي كانت تُسمع منه في حياته، وتبقى مجلجلة بين الجوانح والأضلاع مدى الأيام، فما أجمل التحلي بالأخلاق وهدوء الطبع ولين الجانب، وهذه الصفات الحميدة لا تكلف من مَنّ الله عليه بها، فهي حلة لا تبلى، تميل النفوس إلى حب صاحبها واحترامه، وتجعل البعض يقتدي به وبفعاله الحسنة، فالله - جل ذكره - قد أثنى على سيد الخلق بالتواضع وحسن الخلق في أول سورة القلم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وهذه منة من المولى يمنحها من يشاء من عباده الصالحين.
ومن أولئك الرجال المعروف عنهم الصلاح والتواضع الجم العالِم الورع فضيلة الشيخ سعد بن محمد بن فيصل المبارك، الذي وُلد في موطنه حريملاء عام 1327 تقريباً في بيت علم وشرف ودين؛ فأبوه عالم جليل، رباه وأحسن تربيته، وقرأ القرآن مجوداً، ثم حفظه عن ظهر قلب على أبيه، وكان يدارسه إياه، ثم شرع في طلب العلم بهمة عالية ونشاط ومثابرة؛ فقرأ على علماء بلده حريملاء ولازمهم زمناً، ومن أشهر مشايخه فيها أبوه الشيخ محمد بن فيصل، وأبناء عمه الشيخ فيصل بن عبد العزيز والشيخ إبراهيم بن سليمان المبارك الراشد، والشيخ سعد بن عبد العزيز الملهمي. كما رحل إلى المجمعة فقرأ على العلامة الشيخ عبد الله العنقري، ولازمه وقتاً من الزمن، ثم رحل إلى الرياض فقرأ على علمائها في الأصول والفروع وعلوم اللغة العربية، ومن أشهر مشايخه مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم وأخوه الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، ثم جد في الطلب والمثابرة مع ما وهبه الله من قوة في الحفظ وسرعة الفهم، فنبغ في فنون عديدة أهّلته إلى القضاء؛ فتولى القضاء في مدن كثيرة، منها: مرات، ووادي الدواسر، وقرية العليا، والرياض، وشقراء، فكان في قضاياه مثالاً في العدالة حازماً محبوباً عندهم، وله المكانة المرموقة والكلمة المسموعة، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يأنس به وبقضائه، وقد درس سنين وتخرج على يديه طلبة كثيرون، وكان على جانب كبير من الأخلاق العالية والإخلاص في أداء عمله وميله إلى الصلح بين المتخاصمين في بعض الحالات التي يسهل حلها والرضا بين الطرفين، واستمر في عمله حتى وافاه أجله المحتوم، فلبى نداء الحق في مدينة شقراء ليلة الخميس 24 رجب 1398هـ، وصلى عليه جموع غفيرة رجالاً ونساء بعد صلاة ظُهر الخميس.
وقد حزن الكثير على رحيله، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة من الأبناء والبنات، معظمهم قد تسنم مناصب مرموقة ومشرفة متحلين بصفات حميدة، وقد رثاه أخوه الشيخ الأديب فيصل بمرثية قوية مطلعها:
بكيت أخي سعداً ولا مثله سعد
ولا مثله ابن وليس له ند
موطأ أكناف مع الناس كلهم
يذكرنا بالصالحين إذا عدوا
لئن كانت الأمجاد تبنى على الحجى
فأوفر حظ في العلا لك يا سعد
ولي مع الشيخ (أبي مبارك) بعض ذكريات الطفولة، وعمري يقارب الخامسة؛ حيث ذهبت إلى محلة الوسيطا (مجمع سكني لأسرة آل مبارك أمراء حريملاء آنذاك) لأشاهد أول سيارة في حياتي متوقفة على مقربة من منزل الشيخ محمد بن فيصل والد الشيخ سعد، وإذا به يخرج من بيت والده ويدخل في البيت المقابل له، وعليه مشلح وملابس جديدة، ولفت نظري في أناقته فبهرني ذلك المنظر، فما كان مني في تلك اللحظة إلا أن ذهبت مهرولاً إلى المحلة (الحارة) المجاورة لأبلغ بعض رفاقي قائلاً بكل براءة وبساطة: شفت الرسول وتعالوا لتروه.
فالشيخ سعد - يرحمه الله - طبع على الأناقة وجمال المظهر مبكراً حتى غادر الحياة مأسوفاً على رحيله؛ لأن سكان الأرياف والقرى أصحاب حِرف وفلاحة؛ قلّ أن ترى عليهم ملابس جديدة إلا في أيام الجمع والأعياد. ولقد ظلت صورة الشيخ ماثلة في مخيلتي حتى الآن. وهذه الأسطر مجرد خاطرة من وهج الذاكرة..
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
تغمده الله بواسع رحمته.
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف - حريملاء