تحويل مسمَّى شركة كلفورنيا ستاندارد أويل كومباني (كاسوك) إلى شركة النفط العربية الأمريكية (أرامكو)، مع تصدير أو شحنة نفط، كان حدثاً مهماً في تاريخنا، ويعتبر من العلامات الفارقة في تاريخ المملكة الحديث، ليس التاريخ الاقتصادي فحسب، بل التاريخ الثقافي والاجتماعي. .....

..... فأرامكو بدأت كشركة أمريكية بشكل ومضمون أمريكي في وسط أُمي جاهل، ومتخلّف. وكان الاتفاق أن تساهم الشركة في تطوير مرافق المنطقة الشرقية ومدنها، ليستفيد من خبراتها الجميع. وتسبب إنشاء أرامكو في نزوح كثير من الشباب للمنطقة الشرقية للاستفادة من فرص العمل هناك، رغم تحفُّظ كثير من الأهل ورجال الدين، لأنهم اعتقدوا أنّ في ذلك مخالطة لغير المسلمين. فشيّدت أرامكو أحدث الأحياء السكنية في أفقر المناطق الصحراوية، وشاهد السكان المحليون بشراً جديداً بأخلاق جديدة وملابس جديدة في شواطئ وشوارع أحياء مدن المنطقة الهادئة. وأوجدت أرامكو آلاف الوظائف المختلفة للسعوديين المنبهرين بالحضارة الجديدة الوافدة من أرقى الدول، وهيأت أرامكو مساكن عمالية مكيّفة، كانت رغم اكتظاظها مكيفة وأريح بكثير من المساكن التقليدية. واستطعم العاملون بها وجبات غير مألوفة، وهيئت لهم فرص التعليم ومن ثم وظائف أعلى، ومساكن أرقى، وسمحت لهم بمخالطة الأمريكان في السينمات والشواطئ، وعلّمتهم الرطانة بالإنجليزية الأمريكية، ومنحتهم بعثات خارجية. فكانت الرطانة الأمريكية والشنب المحفوف، والاعتداد الذي يصل أحياناً لحد اعتبارها سمات مسجّلة لشخصية بعض موظفي أرامكو.

كانت مدارس ومستشفيات أرامكو مثاراً للإعجاب، وكذلك تنظيمها الإداري «الأمريكي»، فأسّست أرامكو أول تلفزيون, وأول سوبر ماركت، وأول مطار دولي، فكان تلفزيون أرامكو حديث كل من زار المنطقة، وتعجّب الناس من صورة الهندي الأحمر، دعاية «ميوشوال أوف أوماها» التي توضع قبل بدء البث، وتذوّق الناس لأول مرة اللوز المطحون «البينت بتر»، وخبز التوست، والهمبرجر. ويقال إنه بُعيد افتتاح مطار الظهران اضطرت الشركة لإيقاف الباب الآلي للمطار لانتشار المخيمات خارجه من السواح الوافدين ليروا بأمهات أعينهم، ويجربوا الباب السِّحري العجيب الذي يتعرّف على الناس وينفتح لهم تلقائياً، مما عطّل مداخل المطار والحركة فيه. هذه الصور الأسطورية لأرامكو بقيت في أذهان الناس حتى بُعيد سعودة الشركة بأمر الملك فيصل - رحمه الله - الذي لم يرض بكيان خارجي بهذا الحجم في المملكة، فتمّت سعودتها بالكامل عام 1988م. فتمّت سعودة الشركة اقتصادياً وإدارياً، لكنه لم يتم سعودة صورتها الأسطورية في مخيلة الناس بالرغم من التطوُّر الهائل في حياتهم، وإيفاد البعثات لعقر دار أمريكا ذاتها، وتوفّر التوست واللوز المطحون، والهمبرجر في كل زاوية، وفي كل تموينات.

أرامكو شركة ضخمة تتحكّم في أكبر احتياطي نفطي عالمي، وتتحكم في إنتاج النفط، ودخلت مؤخراً في تصنيع البتروكيماويات، وحجمها أسطوري أيضا فيما يتعلق بالتوظيف، فهي توظف ما يقارب الثلاثين ألفاً حسب سلمها وميزاتها الخاصة بها. ولكن ورغم سعودتها بالكامل استمرت في كونها صندوقاً أسطورياً مغلفاً بإدارة سعودية لا أمريكية، ولسان الحال يقول دعوها تمر دعوها تعمل. غير أنه حصلت مؤخراً بعض الأمور مما يتوجّب تسليط الضوء عليها، وتسليط الضوء على عملها، وما يجري داخلها. فهل أرامكو اليوم هي معجزة وأسطورة الأمس؟

فقد تعرّضت أجهزة الحاسب في هذه الشركة لهجمة أتلفت بنيتها التحتية الحاسوبية بشكل كامل، 30 ألف جهاز حاسب أتلفت، حسب ليون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي الذي أذاع الخبر. فتعجّبنا لسماع ما حدث في شركة سعودية من الخارج وليس من أرامكو ذاتها؟ ولماذا استمرت أرامكو بالتقليل من أهمية ما حدث، وصوّرته رغم ضخامته على أنه حدث عرضي، هامشي، حتى أنها لم تعقد مؤتمراً صحفياً بشأنه؟ عموماً كل ما حصل هو أنّ تجاهل الموضوع زاد البلبلة حوله.

تبع ذلك مباشرة إدانة شركة تايكو السويسرية في محاكم أمريكية بدفع رشى لمسئولين في أرامكو مقابل بيع معدات الشركة لأرامكو، فدفعت تايكو مقابلها 26 مليون دولار كغرامة. وهذه تهمة بعد اعتراف الشركة الراشية بالذنب، فكان أن خرج علينا رئيس أرامكو ببيان بقوله: «إنّ أرامكو السعودية تدين مثل هذه الممارسات وتأخذ الشكوك المتعلقة بالسلوك المنافي لقواعد وأخلاقيات العمل بجدِّية بالغة، كما أنّ أرامكو السعودية تواصل تحقيقها الخاص في هذه القضية ... الخ» وأسفرت تحقيقات شركة أرامكو في تجاوزاتها بإدانة فني مسئول عن المواصفات، بحصوله على رشوة قدرها 400 ألف دولار وأضاف الفالح قائلاً: «من المؤسف أنّ تصرفًا غير لائق من شخص واحد يمكن أن يلوّث سمعة الشركة التي يبذل موظفوها قصارى جهدهم للمحافظة عليها.»

وكان الأفضل لسمعة أرامكو، ولسلامة صورتها الأسطورية المهنية، أن تحقق في ذلك جهة خارجية محايدة، هيئة النزاهة، ديوان المراقبة ربما، لأنّ ذلك في مصلحة أرامكو في المقام الأول.

ومع هذا، فإنّ شركة أرامكو تظل واحدة من أكبر شركات النفط العملاقة على مستوى العالم، حيث تتمتع بتنظيم إداري ومالي وفني يجعلها قادرة على إدارة أعمالها بمستوى عالٍ من الجودة، الأمر الذي يجعلنا لا نقبل بمثل هذه الأخطاء أو التجاوزات التي تضر بمستوى الأداء الممتاز الذي عُرفت به على مدى عقود من الزمن.