باب فقه الحج من أوسع الأبواب الفقهية اختلافاً في مسائله؛ وما ذاك إلا لتنوع النقل عن الرسول عليه السلام في حجته الأخيرة ولكثرة سؤال الناس وتعنتهم على أنفسهم منذ العصور الأولى في ظل ازدهار صناعة الفقه آنذاك. وقد درستُ فقه الحج بتعمق شديد لسنوات مع التطبيق، وانتهيت بأن فقه الحج محصور بين أصلين اثنين، أعلاهما قوله عليه السلام «خذوا عني مناسككم» وأدناهما قوله «افعل ولا حرج». وخذوا عني مناسككم هو كقوله عليه السلام «صلوا كما رأيتموني أصلي»؛ فالأصل أن يحج المسلم كحجة النبي عليه السلام إلا ما استثني من عموم حجته بالدليل الصحيح كالاستعجال في منى وكالتمتع والإفراد، وسآتي على ذلك. وكما أنه من الأكمل في الصلاة أن نصلي كما صلى عليه السلام إلا أننا قد لا نفعل لحاجة (كزحام أو مرض)، أو لتهاون، أو لجهل، أو لكون الصلاة سنة لا فريضة، كالقيام ونحوه، فنجلس بدلاً من القيام، ولو من غير حاجة شديدة، وكذلك فإننا قد لا نحج كما حج عليه السلام للأسباب ذاتها. وكما أن هذا يُفرق بين صلاتين كما بين السماء والأرض في الأجر والعقوبة والقضاء والبطلان فإن هذا مطرد في الحج كذلك. فالجاهل والمحتاج لا أثم عليهما في الحج، ولا عليهما فدي إلا في الصيد والحلق والإحصار (أي عدم استطاعة إكمال الحج بعد عقد نيته)، وما عدا ذلك دون أركان الحج فلا فدي فيه. والأثر المشهور «من ترك نسكه أو نسيه فليهرق دماً» إنما تفقه من ابن عباس رضي الله عنهما، ثم توسع بعض الفقهاء الذين أوجبوا الفدي في كل من أتى محظوراً أو ترك واجباً، وهذا معارض لقوله عليه السلام في كل من أتاه سائلاً وقد ترك أو نسي «افعل ولا حرج». وافعل ولا حرج إنما هي للناسي والجاهل والمحتاج (ولزوم الرفقة من الحاجة)، وأما المتهاون عبثاً فأمره إلى الله، ولا صحة للفدي في حقه، إن شاء الله أنقص أجره وقبل عمله أو أبطله وعاقبه وإن شاء غفر له. وأما في الدنيا فقد سقط عنه فرض الحج كما هي تسقط صلاة المتهاون بقيامها وسجودها وواجباتها. وممن سمعت يقول بهذا القول شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - لكنه أتبع بقوله «ولكن من باب السياسة أن لا نحدث الناس بهذا فإن الناس لا يردعهم عن التهاون إلا الفدي» أو نحواً من ذلك. ولعل الحاصل أن الناس أصبحوا يتهاونون تعبثاً من غير حاجة ولا نسيان، ثم يعتقدون أن هذا لا بأس به ما دام أنه سيهرق دماً، والأصل تعليم الناس حقيقة دينهم فلا يجعلون نسكهم مقايضة بفدي،الحساب عند ربهم.
ومما كثر الاختلاف فيه بين العلماء، واختلط على عامة الناس، هو حج القران وحج التمتع، فكلاهما إتمام نسكين في سفر واحد، عمرة وحج. وكلا النوعين (القران والتمتع) فيهما الهدي. والتمتع بالحج أمره واضح، وهو الإتيان بعمرة كاملة قبل الحج ثم الإحلال منها تماماً، ثم الإحرام بالحج من مكة نفسها بحج كحج المفرد. أما القران فهو إدخال الحج على العمرة، وهذا يعني أن سعي العمرة التي يأتي بها الحاج عند قدومه قبل الحج هو نفسه سعي الحج فلا يسعى القارن في طواف الإفاضة (طواف الحج)؛ ولهذا يقال يُدخل الحج على العمرة فهو أدخل الحج ضمن العمرة، ودمجهما من خلال سعيه في السعي الأول؛ لذا فالقارن لا يحل بعد الانتهاء من عمرته؛ لأنه قد تلبس بالحج ويبقى محرماً بخلاف المتمتع. والصحيح أنه لا قران دون سوق الهدي من خارج الحرم، (أي أنه يأتي بذبيحته معه)، وهذا مما اختلف فيه العلماء رغم أن قوله عليه السلام واضح «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» أي أن من لم يسق الهدي معه فعليه تأسياً برسول الله عليه السلام أن يجعل حجه تمتعاً لا قراناً. وسوق الهدي من خارج الحرم فيه ما فيه من تعظيم لشعائر الله، فيراها الناس تمشي ساعية إلى الحرم وقد أُشعرت على أسنمتها وقُلدت بالقلائد. وسوق الهدي قد أصبح شبه متعذر وشاق اليوم، وقد جربته مع رفقة لي عندما كانت الأمور أهون بكثير من الآن، ولقينا صعوبات شتى. وقد أخبرت الشيخ ابن عثيمين بأنني ورفقتي سقنا الهدي معنا قارنين بالحج مع العمرة، فتهلل وجهه - رحمه الله - وسألني ماذا سقتم؟ فقلت غنماً قلدناها بنعال وضفائر، فدعا لنا رحمه الله. وبما أن سوق الهدي من خارج الحرم قد أصبح شبه متعذر اليوم فلا قران اليوم على الصحيح، والله أعلم.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem