يعتبر الفاتيكان على حسب تعبير السفير عبدالوهاب معلمي من أقدم الفاعلين في العلاقات الدولية. فدوره الخفي وغير الظاهر في أغلب الأحيان للرأي العام العالمي، لا يمكن إهماله. ومع صعود المتطرفين وعودة الأديان بقوة إلى الساحة الدولية يصبح هذا الدور محورياً.
كما أن هاته الإشكالية تظهر أكثر للعيان عندما يتعلق الأمر بعلاقات العالم الإسلامي بالغرب وبالمسيحية على وجه الخصوص، ومن ثم، فإن العلاقات ما بين العالم الإسلامي والغرب من جهة، والفاتيكان من جهة أخرى، ذات حساسية كبيرة، باعتبار الطابع الخاص لهذا الفاتيكان، نظراً لكونه دولة ذات سيادة وأيضاً لأنه ممثل إحدى أكبر الديانات في العالم الكاثوليكي وأحد الأسس الثقافية الكبرى للغرب، وهو ما يبيّن أن العلاقات بين العالم العربي والإسلامي/ الفاتيكان هي في قلب الحوار ما بين الحضارات والثقافات.
كما أن العلاقات بين الفاتيكان والعالم العربي والإسلامي لم تستنفد كل الحوار الإسلامي - المسيحي، رغم كونها النواة الأساسية والمظهر الأكثر غنى والأكثر دينامية، وهذا لسببين اثنين. فمن جهة يتعلق الأمر بلقاء ما بين الديانتين الأوليين في العالم، الإسلام والكاثوليكية. ومن جهة أخرى، تحتل الدبلوماسية دوراً إستراتيجياً. فإقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الفاتيكان، من قبل دولة عربية وإسلامية، ليس أمراً عادياً. بالعكس هناك دلالة رمزية عميقة بالنظر إلى العلاقات ما بين الإسلام والمسيحية. الذي يهمني في هاته العلاقة الدبلوماسية هو وجود فاعلين ذوي نظرة موضوعية للحوار تجعلهم يستعملون أدوات النقد الصائبة للتقريب بين وجهات النظر؛ استشهد هنا بواحد من دعاة الحوار المسيحيين الموضوعيين وهو الأب بيير ميشل لولون وحبذا لو يتبع الآخرون من أبناء جلدتهم هذا المنحى؛ كنت قد استدعيته في أحد اللقاءات الفكرية التي عقدتها بمدينة فاس وأطعم الملتقى بتدخل بدأ فيه بالدعوة إلى إجراء نقاش جدي وهادئ... وحتى يتحقق ذلك في نظره، على كل واحد أن يقتدي بما قاله يوماً أحد رواد الحوار الإسلامي المسيحي، الفيلسوف لوي غاردي: “من أجل أن ننشئ علاقات عادلة وهادئة بين المسيحيين والمسلمين يجب على المسيحيين أن يتكلموا عن الإسلام بشكل يجعل المسلمين يتعرّفون على أنفسهم في ما يُقال، ويجب على المسلمين أن يتحدثوا عن المسيحية بشكل يتعرّف فيه المسيحيون على أنفسهم في ما يُقال عن عقيدتهم”. ويضيف الأب ميشل أن رجلاً كالبابا بونوا 16، يبدو أنه نسي يوماً هذا المطلب. ففي المحاضرة التي ألقاها في جامعة راتسبون سنة 2006 تحدث عن العلاقة بين العقل والإيمان في الإسلام بمصطلحات لا تتطابق مع ما يعتقده ويقوله المسلمون. والدليل أنه بعد بضعة أيام من إصدار هذا التصريح قامت أربعون شخصية إسلامية - مفتون، علماء كلام، جامعيون - تنتمي لدول مختلفة بتوجيه رسالة إلى البابا، حيث ورد فيها “قداسة الأب، في الحين الذي ننوه فيه بجهودكم من أجل إدانة هيمنة الوضعية والمادية، فإن علينا مع ذلك أن نشير لبعض الأخطاء أثناء عرضكم للإسلام كمثال مضاد للاستعمال السليم للعقل، وفي الأطروحات التي توردونها للدفاع عن استدلالكم. نعلم أن هناك من غير المسلمين وخصوصاً من الكاثوليك متخصصين أكفاء في الإسلام. ولكن الأمر نفسه لا نستطيع أن نقوله بصدد الأشخاص الذين اعتمدتم عليهم، لأن هؤلاء لايعبّرون بشكل دقيق عن الفكر الحقيقي للمسلمين (....). نشارككم الرغبة في حوار صريح وصادق، ونسعى إلى الاستمرار في ربط علاقات سلم وصداقة مع الكنيسة الكاثوليكية، مبنية على الاحترام المتبادل والبحث عن العدالة”. حتى قبل استيلام هذه الرسالة، حرص بونوا 16 في روما على لقاء السفراء المعتمدين بالمقر البابوي كإقرار بالخطأ لما صدر منه، ووجه لهم خطاباً طويلاً نقرأ فيه: “في عالم يتصف بالنسبية فإننا في حاجة أكيدة إلى حوار أصيل بين مختلف الديانات والثقافات، يكون بمستطاعه أن يساعدنا جميعاً على تجاوز كل التوترات بروح التعاون المثمر. وأتمنى خالصاً أن تستمر لا فقط العلاقات الصادقة التي بين المسيحيين والمسلمين منذ عدة سنوات، بل إن تتطور داخل جو من الحوار تطبعه روح الإخلاص والاحترام، المبني على معرفة متبادلة تزداد متانة وتعترف - بفرح - بالقيم الدينية المشتركة بيننا، وتحترم بإخلاص الاختلافات.
إن الحوار بين مختلف الديانات والثقافات، هو ضرورة من أجل أن نشيد جميعاً عالم السلام والأخوة الذي يأمله بحرارة كل الناس ذوي الإرادة الصادقة. في هذا المجال ينتظر منا معاصرونا شهادة بليغة، حتى نظهر للجميع قيمة البعد الديني في الوجود”.
كما أن تأثير السياسات الخارجية المزدوجة للغرب على نظرة الشباب المسلم عن الآخر لا يمكن تجاهلها في تحليل الأب ميشل. فأمريكا في نظره تتبع سياسة “الكيل بمكيالين” التي تدّعي حرصها على احترام القانون الدولي ولكن بنوع من “الهندسة المتغيرة”، لأنها لا تفرض على دولة إسرائيل الانصياع لقرارات الأمم المتحدة.
كذلك يتذمر الكثير من المسلمين وفي قارات مختلفة من مادية المجتمع الغربي واستهتاره الأخلاقي، وفراغه الروحي، بناءً على الفكرة المكونة لديهم من الأفلام، الإشهار والقنوات التلفزية الغربية. وينظر هؤلاء المسلمون باستغراب - ممزوج بالأسف - إلى وضع الكنائس المسيحية الأوربية التي يبدو أنها قبلت، باستكانة، الانحطاط الأخلاقي. وفي هذا الصدد يقول الأب المسيحي إن إسرائيل ما زالت، ورغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية مؤخراً، تخترق يومياً القانون الدولي بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية، ودون أن يجرؤ الاتحاد الأوربي على التحرّك من أجل إيقاف هذه الوضعية الظالمة. يفرض على العراق الانصياع لقرارات الأمم المتحدة، وتترك إسرائيل في حل من أي التزام بهذه القرارات. أليس هذا ما حصل بالنسبة للوضعية القانونية للقدس؟ ففي أكثر من مرة قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، بإدانة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وخصوصاً إدانة القرار الذي اتخذته إسرائيل بتحويل القدس عاصمة لها.
لم يقف الأمر عند حدود عدم احترام حكومة تل أبيب لهذه القرارات، بل تعدى الأمر كذلك إلى قيام البرلمانيين الإسرائيليين في الكنيست، بالتصويت على “قانون أساسي” يعلنون من خلاله أن القدس هي عاصمة أبدية لإسرائيل؛ فوافق مجلس الأمن على القرار التالي “ينتقد مجلس الأمن بعبارات قوية، تبني إسرائيل للقانون الأساسي حول القدس، ورفضها الانصياع لقرارات مجلس الأمن، ويعتبر أن كل الممارسات والإجراءات المتخذة من طرف إسرائيل كقوة محتلة، سواء تلك التي غيّرت، أو الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للمدينة المقدسة القدس، وخصوصاً “القانون الأساسي” الأخير، هي إجراءات باطلة وغير مقبولة ويلزم إيقافها فوراً. ويقرّر مجلس الأمن عدم الاعتراف بالقانون الأساسي (...) ويطالب من كل أعضاء الأمم المتحدة (أ) القبول بهذا القرار، (ب) قيام الدول التي أقامت تمثيليات ديبلوماسية في القدس سحب ممثليها من المدينة المقدسة”. انسجاماً مع هذا القرار الأممي، قامت الدول الأجنبية (باستثناء واحدة أو اثنتين) بسحب سفرائها من القدس وإقامتها في تل أبيب. لكن الدولة الإسرائيلية ما زالت تمارس احتلالاً غير مشروع للمدينة المقدسة، خارقة بشكل يومي للقانون الدولي دون أي عقاب.
في هذا الظرف، يصبح أكثر من اللازم على ممثلي العائلات الروحية الثلاث، الإسلام، المسيحية واليهودية، أن يتشاوروا ويعبّروا موحّدين حتى يحل العدل أخيراً في الأرض التي شهدت ميلاد المسيح عيسى ابن مريم. الحوار الإسلامي- المسيحي في حاجة إلى مثل هؤلاء المسيحيين المنصفين الذين يعملون أدوات الحوار ويستندون إلى أدوات النقد الذاتية البناءة.