التشدُّد أو الغلو ظاهرة عرفها الإسلام منذ فجر التاريخ، وكان لها دائماً أسبابها وبواعثها الموضوعية؛ فلم تأت قط فجأة دونما أسباب وبواعث تبرِّرها موضوعياً؛ غير أنّ من يقرأ تاريخ الإسلام يجد أنّ الدين الذي بقي وتجذّر وانتشر، هو الإسلام الوسطي المتسامح الذي يتواءم مع الحياة الطبيعية للإنسان فلا يكلِّفه فوق طاقته، أو يحرمه من رزقه ومعيشته، أما الإسلام العدواني والمتطرِّف والموغل في الهجومية والتجهُّم والتضييق على الناس أو تفسيقهم أو تكفيرهم وإخراجهم من الملّة، فهذا قد تطفو به بعض الظواهر الاجتماعية من فئات معيّنة في مكان ما فترة من الزمن، إلاّ أنه لا يلبث إلاّ وتنحسر أمواجه ويهدأ عنفوانه، لينحصر في قلّة قليلة في نهاية المطاف، ليكون التسامح هو الأصل والتشدُّد هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا يلغيها.
وبين يدي كتاب لأحد طلبة العلم ممن عاش - رحمه الله - في القرن الماضي سمّاه: (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين)، وقد قدّمَ له أحد كبار العلماء ومشاهيرهم في زمنه فأثنى عليه، وقال عنه في المقدمة: (وفي التحقيق إني لا أعلم أنه ألف في منواله مثله مع وضوح العبارة والعناية بالأدلة والعلل المهمة والحكم الشرعية والأضرار الكثيرة الناجمة من مشابهة المشركين، والاقتداء بهم المفضية إلى نسيان الكثير من السنّة).
وسوف أستعرض في هذا المقال بعض الموضوعات التي احتواها الكتاب آنف الذِّكر، لأثبت أنّ ما يحصل اليوم من تشدُّد، كان قد حصل البارحة بشكل أو بآخر؛ فالمتشدِّدون موجودون في كل العصور والأزمان، فيبقى ما ينفع الناس، ويندثر ما كان قائماً على الوهم والتهيؤات وتحميل الأدلة ما لا تحتمل.
جاء في الكتاب المذكور مثلاً: (من التشبُّه بأعداء الله تعالى استقذار الأكل بالأيدي واعتياد الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي وكذلك الجلوس للطعام على الكراسي ونحوها مما يتكئ الجالس عليه ويتمكن من جلوسه).. (فأما هديه في الأكل فقد كان يأكل بثلاث أصابع ويلعقها إذا فرغ).. (وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة - (الإناء الذي يوضع فيه الطعام) - ورَغّبَ في ذلك).. (والقول في أكل اللحم بالأشواك التي أحدثها أهل المدنية من الإفرنج ومن يتشبّه بهم كالقول في الأكل بالملاعق سواء، فكلاهما أولى بالاستقذار من الأكل بالأيدي)!
كما جاء فيه - أيضاً - ما نصّه: (من التشبُّه بأعداء الله اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان وذلك لأنّ اللعب بها على هذا الوجه مأخوذ من الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى).. (واللعب بالكرة نوعٌ من أنواع الميسر لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة وقد روى ابن جرير في تفسيره من طريق عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد النرد ميسر)
وجاء فيه: (من التشبُّه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الجهّال من التصفيق في المجالس والمجامع عند رؤية ما يعجبهم من الأفعال وعند سماع ما يستحسنونه من الخطب والأشعار وعند مجيء الملوك والرؤساء إليهم وهذا التصفيق سخف ورعونة ومنكر مردود).
وجاء فيه أيضاً: (ومن التشبُّه بأعداء الله تعالى إسقاط لفظة «ابن» في النسب كقولهم لمن اسمه أحمد بن محمد، أحمد محمد؛ ونحو ذلك ؛ وهذا معروف عن الإفرنج من قرون كثيرة وقد وقع في تقليدهم فيه ما لا يحصيه إلاّ الله).
وبعد .. هذه نماذج من تشدُّد المتشدِّدين في زمن قريب مضى، فهل بقي من هذه المسلكيات المتشدِّدة شيء؟.. انتهت، ومرت، وبقيت فقط كتاريخ بين دفّتي كتاب، رغم أن المؤلف - رحمه الله - كان قد اجتهد وحرص على أن يجعل كل ما انتهى إليه من أحكام مبنياً على دليل صحيح، غير أنّ الاستدلال نفسه وليس الدليل لم يكن منضبطاً، فانتهت كل جهوده ومُخرجات أحكامه إلى النسيان.
وليس لدي أدنى شك أنّ كثيراً من الفتاوى المتشدِّدة التي يُدافع عن صوابيتها الآن بعض المتشدِّدين ستنتهي نفس النهاية؛ فالإسلام سيبقى دين التسامح والوسطية والسلام والعيش الكريم وتبادل المنافع بين بني البشر وإن كره المتزمِّتون.
إلى اللقاء.