بعض الكتَّاب العرب تخونهم الذاكرة في اجتهاداتهم، بافتراض حسن النية فيما يكتبون، فتراهم لا يوفَّقون في نقل وجهات نظرهم، وبخاصة حين تحمل مقالاتهم بين سطورها أسئلة غامضة ومعلومات غير صحيحة وآراء لا تتفق مع الواقع وتصويراً لها بغير ما يعرفه جمهور القراء، بحيث لن يكون أمام القارئ من خيار عند محاولته استكشاف وتحليل الغرض من طرح بعض الكتَّاب العرب لكثير مما يكتبونه في صحفهم غير القول بأنهم يهرّفون بما لا يعرفون.
***
فها هو المحرر السياسي في صحيفة الدستور الأردنية -الذي لم يعرّفنا على إسمه- يكتب في عددها الأربعاء الماضي مقالا غريباً ً بعنوان: «هل ترضى المملكة أن ترخي حدودها الشمالية» بطرح أقل ما يقال عنه: إنه اختزل فكرته بالفاتورة المالية التي ينبغي على المملكة أن تسددها للأردن لقاء ما أسماه حمايتها لحدود المملكة وحفظ أمنها، حيث يجري -كما يقول- الالتزام الأردني بحفظ الأمن والاستقرار على هذه الحدود.
***
ولا يكتفي الكاتب بهذا الرأي الفجِّ وهذا الطرح غير المسؤول، وإنما يذهب إلى المقارنة بين ما يجري في حدود المملكة شمالاً مع الأردن وحدودها جنوباً مع اليمن، فيقرر بأن المملكة لم تتلقَ ذات الاستجابة من الجارة الجنوبية -يقصد اليمن- التي أرهقتها أمنياً وخاضت مع المتطرفين فيها حرباً راح ضحيتها الشهداء من جنود المملكة، في حين حفظ الأردن حدوده من كل عبث يمس أمن المملكة، كي لا يقع ما يحرج المملكة أو يضيف إليها عبئاً ثقيلاً يضاف لأعبائها الأمنية التي تشهدها كل سنة كما يقول.
***
وهو بهذا الرأي الذي نستغرب أن ينشر في صحيفة تصدر في الأردن، وهي الدولة الجارة والشقيقة التي تجد من المملكة وعلى امتداد التاريخ الدعم المالي الكبير غير المشروط والمساندة الكاملة إعلامياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، ودون أن تمنّ بذلك، أقول: نستغرب أن يفتئت هذا الكاتب على الحقائق ويساوم على التعاون بين بلدين وقيادتين تربطهما أوثق العلاقات وتجمعهما قواسم ومصالح وأهداف مشتركة، ربما أن كاتب المقال لم يدركها، أو أنه كتب ما كتبه -مدفوعاً- لهدف غير الذي حاول أن يخفيه في سياق المقال.
***
وإذا كانت توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ذات أثر كبير في دعم مسار العلاقة بين المملكتين، وأن العاهل الأردني عبَّر بنفسه عن أن دعم المملكة يعدُّ رمانة الميزان في الدعم العربي والخارجي، وقد أشار إلى ذلك في خطابه قبل عيد الأضحى المبارك، كما أشار جلالته في سياق الخطاب بامتنان كبير إلى دعم المملكة للمملكة الأردنية -كما جاء في المقال- فكيف يأتي مثل هذا الكاتب ليشوِّه هذه الصورة الجميلة بالقول: إن الأردن ينتظر أن يتجاوز دعم المملكة للشقيقة الأردن مسألة تسليك الاقتصاد.
***
وفي تهديد مبطن يطالب الكاتب بأن يكون دعم المملكة للأردن أبعد من مسألة تسليك الاقتصاد، بحجة أن كلفة أمن الحدود الشمالية للمملكة السعودية لا بد أنها تلقى لدى صانع القرار السعودي أهمية كبيرة تتجاوز ميزان الدعم المقرر للدول الشقيقة الأخرى ، واصفاً الحدود بين المملكتين بأنها الوحيدة الأكثر أمناً للسعودية، وبأن المدن الأردنية المتاخمة لحدود المملكة مع الأردن هي بداية الأمان، حيث تنتهي فيها المشاكل دون أن تعبر إلى الأراضي السعودية، وكأنه بذلك يلغي جاهزية الأمن السعودي المتمثِّل في سلاح الحدود والأمن العام والحرس الوطني والقوات السعودية الضاربة التي تسهر على حفظ أمن البلاد مثلما فعلت مع الحدود الجنوبية، معتبراً في مقاله أن استتباب الأمن يعتمد على الذراع الأمني الأردني متجاهلاً القوة الأمنية والعسكرية السعودية وهي الأكثر تجهيزاً وجاهزية واستعداداً من غيرها.
***
إن مثل هذا المقال لن يُؤثِّر سلباً على العلاقات السعودية - الأردنية التي تمتد جذورها إلى عمق التاريخ البهي، لأن المملكتين لديهما من التفاهم المشترك أكثر وأهم وأعمق مما ورد من تلميحات وايحاءات وإشارات غريبة وردت في هذا المقال، بما في ذلك ما أسماه التزام الأردن بما لا يجرح الأخوّة ويضيف على المملكة السعودية عبئاً ثقيلاً يضاف لأعبائها الأمنية التي تشهدها كل سنة مع مواسم الحج والعمرة، وقوله: إن دعم المملكة للأردن في مواجهة ارتفاع كلفة الفاتورة النفطية إنما هو دعم يغطي -بالكاد- فرق السعر فقط، فأي منطق وأي فكر وأي عاقل يمكن أن يقيس العلاقة الثنائية التاريخية بين المملكتين بمثل هذا التسطيح والتهميش والنظر إلى الأمور والعلاقات بين الدول بهذا المنظار.
***
وفي نهاية المقال يفصح الكاتب عن حجم الفاتورة التي ينبغي أن تسددها المملكة للأردن الشقيق، مثيراً الكثير من المخاوف من النموذج السلفي الجهادي وانعطافه إلى المملكة، وبالتالي احتمال مواجهتها لشكل من أشكال حرب الحوثيين، وبالتالي لا ضمان لأمن المملكة وتحقيق المزيد من الاستقرار فيها إلا بدعمها للأردن مالياً، حيث -كما يقول- إن ثمة مسافة باتت تشكل لدى الأردنيين بأن ثمة من يريد من الأردن بأن يبقى وحيداً، وأن تصاب العلاقة بين الدولتين بالبرود، وبالتالي فإن الأردن -على حد زعمه- لا تستطيع أن تضمن كل حدودها مع المملكة طيلة الوقت، وأن المملكة لا تقبل بأن ترتخي حدودها الشمالية بعدما واجهت ذلك في حدودها الجنوبية في حال انتصر -حسب زعم الكاتب- دعاة تقنين الدعم للأردن.
***
أسأل بعد كل هذا، هل يعرف الكاتب حجم الدعم الذي تقدمه المملكة للأردن الشقيق، وهل آن الأوان أمام مثل هذه الكتابات الجاحدة وغير المنصفة أن تُعرّف بحجم الدعم، هل ما كتب من بنات أفكار الكاتب، وهل مثل هذا الطرح الإعلامي يخدم العلاقة المتميزة بين الدولتين، ويساعد على ثنائية راسخة ومثالية في العلاقات فيما بينهما، وهل تحصل المملكة الأردنية الشقيقة على دعم من أي دولة يفوق ما تحصل عليه من المملكة، وهل يصدق عاقل بأن الأردن هو من يحمي حدودنا معها، أو أن ما نساعد به الشقيقة الأردن هو مقابل هذه الحماية منها للحدود، كما لو أننا لا نملك القوة المسلحة والأجهزة الأمنية التي حمت وتحمي كل الحدود على طولها وتعقيداتها، فيما أن كل من تحرش بنا تم تأديبه فلم يعد مرة أخرى إلى تكرار المغامرة معنا؟!