يستضيف فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة غداً الأربعاء 22 /12 /1433هـ الباحث الفرنسي «فيليب بتريات» لإلقاء محاضرة عامة تتناول تاريخ وجود الجاليات الأوروبية في جدة منذ عام 1900م، وقد نشرت جريدة الشرق في عددها الصادر الأربعاء 8 /12 نفي الفرنسي «بتريات» عن نفسه كونه مستشرقاً كما وصفه فرع الجمعية في خبر إعلان إقامة المحاضرة فـ»أنا مؤرخ ولست مستشرقاً».. الباحث التاريخي الدكتور «زيد الفضيل» بدوره اعتبر وصف الفرع لفيليب بأنه مستشرق يُعد «خطأ فادحاً» نظراً لأن دور الاستشراق - كما يقول هو للشرق - انتهى في الوقت الحالي، موضحاً أن هذا المفهوم ارتبط في وقت سابق بالعهد الاستعماري القديم، حيث كان المستعمرون يرسلون متخصصين لإجراء إحصاءات تفيد الاحتلال وهو ما لم يعد موجوداً اليوم»!!.
شخصياً أستغرب إعلان موت الاستشراق وفصل الدراسات التاريخية عن الحركة الاستشراقية، كما أنني أتعجب من حصر هذا المشروع العلمي الضخم الذي له ما له وعليه ما عليه بالجانب السياسي الذي لا تعدو السياسة أن يكون حقلاً من حقول هذا الفن ذي التاريخ الطويل والمسارب المختلفة والمتعددة والعميقة، والمغالطة الأخرى ربطه فقط بالاستعمار الذي جثم على صدر بلاد الشرق خصوصاً الإسلامي منها، مع تسليمي المطلق بأن المد الاستعماري وظَّف عدداً من الباحثين الغربيين لسبر أغوار المجتمعات وقراءة الأرض التي يريدون القدوم إليها، لكن هذا بعض من كل كما هو معروف.
إن الاستشراق في نظري يعني باختصار شديد (وعي الآخر بالذات) يُدلل على هذا ما جاء في الموسوعة المُيسرة للأديان والمذاهب المعاصرة من أن الاستشراق (ذلك التيار الفكري الذي تمثَّل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي والتي شملت حضارته وأديانه، وآدابه ولغاته وثقافته، وقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن العالم الإسلامي مُعبِّراً عن خلفية الصراع الحضاري بينهما).
تطور هذا التيار العريض من مجرد مدرسة في فن التصوير تضم فنانين ينتمون إلى أوروبا الغربية - مغتربين ومنغمسين - في الرومانسية الشرقية إلى كونه علماً قائماً بذاته نما شيئاً فشيئاً وتعددت مدارسه ومذاهبه وتباينت اتجاهاته واهتماماته، حتى أصبح للغات الشرقية والمذاهب الإسلامية كراسيها المميزة في الجامعات الغربية العريقة، وانتشرت في ذات الوقت المكتبات والمجلات والمطابع التي تركز في أعمالها البحثية ومشاريعها الإستراتيجية على الشرق سواء أكان ذلك في فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا أو البرتغال أو النمسا أو هولندا أو بولونيا أو الدنمارك أوالولايات المتحدة الأمريكية، وهو اليوم يأخذ صبغة الأعمال المؤسستية بعد أن كان طابعه العام الدراسات والمغامرات الفردية إذ صار له مراكزه المتخصصة وهيئاته العلمية المرموقة والدعومة، كما تغيَّر ترتيب الاهتمامات والأولويات في قائمة الدراسات والمشاريع البحثية من سياسية عسكرية صرفة إلى فكرية اجتماعية اقتصادية بالدرجة الأولى، وانتشرت الجمعيات الاستشراقية في شرق الأرض وغربها، شمالها وجنوبها تحت مسميات مختلفة وبألوان متباينة، وفي ذات الوقت عقدت المؤتمرات العلمية ذات الصلة المباشرة بوعي الآخر للذات في كثير من البلاد الغربية ودُعي لها المهتمون بهذا الفن الشرقي أو ذاك، واحتضنت الجامعات الكبرى الباحثين المختصين في الشرق وبدأ التخطيط الإستراتيجي مُركِّزاً وبشكل فعَّال خصوصاً الاستشراق الأمريكي في توجيه ذهنية الشعوب والبحث عن العدو الاحتمالي حتى تستمر عملية التسلح وتتطور صناعته.
إن الانتماء إلى الحركة الاستشراقية ليس سبة على الدوام، إذ إن من المستشرقين من خدم التراث الإسلامي وكان منصفاً وصادقاً فيما قال وكتب وهم القلة،، وهناك من كان محايداً بشكل كبير مكتفياً في كتابته على الوصف والتحليل دون أن يعطي رأياً شخصياً فيما جاء عليه من مشاهدات وقراءات، والفريق الثالث مالَ عن جادة الحق وشوّه الحقائق وتلاعب بالنصوص وزوّر التاريخ وهؤلاء وللأسف الشديد هم الأغلبية، لذا صار الحكم على الجميع واحداً في نظرنا وارتبط في الذهنية العربية بالمد الاستعماري الذي بصدق استطاع أن يستفيد مما كتبه المستشرقون وكذا المستغربون إبان ذلك التاريخ.
الشيء الجديد في الاستشراق الحديث أنه استطاع توظيف عدد من أبناء الشرق من خلال مراكز زرعها في بلادنا للقيام بجمع المادة ومراقبة إيقاع الواقع وتسهيل مهمة الباحثين الغربيين والترجمة لهم وإمدادهم بمفاتيح فكرية تصلح لسبر واقع شريحة ما من أبناء هذا البلد أو ذاك، وعلى افتراض التسليم بانتهاء عهد الاستشراق.. أين يُصنف الدكتور «الفضيل» أبحاث ودراسات الأصولية الإسلامية والحركات الإرهابية والأصولية المتطرفة، وما كتب عن أحداث الحادي عشر من ديسمبر وما سطرته أقلام الغربيين عن واقع المرأة المسلمة اليوم خصوصاً في المملكة العربية السعودية، وكذا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «الشرطة المجتمعية» وتجربة البنوك الإسلامية و... إلخ.
إن هذه العناوين العريضة وغيرها كثير تُصنف في خانة الاستشراق الحديث، وفي المقابل هناك الاستغراب والذي سوف أترك الحديث عنه للقادم من الأيام - بإذن الله -.. دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.