عرفت علماء، وجالدت أدباء، وتناوشت مع مفكِّرين، وناكفت ساسة، وراوحت بين سويعات لاهية في القراءة، وأخرى عازمة، وخلوت بكتب غَيَّرت مجرى التاريخ،
وخضت مع الذين خاضوا في لجج الأفكار والمذاهب، ومضائق النِّحل، وعويص الملل.
وعجبت من علماء فرُّوا من كتب الخصوم فرارهم من الأسد. وتَرَضَّيت على (حذيفة بن اليمان) الذي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر، مخافة أن يقع فيه. وليس متهوِّكاً من سمع رأي الخصوم.
وقول المبلغ عن ربه لـ(لابن الخطاب) رضي الله عنه، حين رأى في يده ورقة من التوراة، لا يعنى المنع من سماع الرأي الآخر. فسماعه تحقيق للقاعدة الأصولية :- (الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره).
وفوق هذا، فليس هناك شرٌّ محض، ولا خير محض، إلَّا ما جاء به المعصوم عن ربه، مما هو قطعي الدلالة والثبوت. فالحياة خليط من الخير والشر. والحكم مرتبط بالتغليب، على حدِّ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة :219).
وعلى ضوء ذلك، لا تخلو نحلة من مقصد حسن. والحق ضالّة المؤمن، والشيطان يَصْدق، وإنْ كان كذوباً. ولقد يُؤْمِن لسان الكافر، ويكفر قلبه، وكل المذاهب المادية تتقاطع مع بعضها، وما من نحلة إلاّ وتغرف غُرْفَةً من معين الإسلام.
ولقد قلت من قبل :- ليس هناك حضارة بريئة، فكل مفكِّر ينشد الخير لذويه، ومن ثم يُنَقِّب في الحضارات عما يراه مفيدًا، والإسلام ينشد الخير للإنسانية كافة، ورسوله جاء لإتمام مكارم الأخلاق. والمفكرون ورثة حضارات سادت، ثم بادت، وجُلُّ رؤيتهم مستلبة من تراث الحضارات البائدة.
وفي كل لحظة من لحظات التأمُّل، ومراجعات الحساب، تتبدّى للمتابع الحصيف إخفاقات، وتلوح له تجليات، تحمله على الإيمان بأنّ لكل شيء بقية، لم تأت بعد: (... ويأتيك بالأخبار من لم تزود).
ويظل صانع هذه الأشياء إنساناً محدود الإمكانيات، والتنبؤات: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188). ولهذا فهو يُجلَّي في مجالات، ويخفق في أُخرى. والكمال المطلق في النهاية لبارئ الكون: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (سورة النساء: 82). ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره، ونور الله هنا كلامه.
وما من متحدث في قوم، أو مُحَبِّرٍ لرأي، إلاّ تمنّى بعد الإفضاء بما لديه، لو تريّث، وراجع، واستشار، واستخار، قبل أن يبدي رأيه للناس. وما من مؤلِّف إلا هو مُستهدف. والرسول صلى الله عليه وسلم اختلف مع أصحابه، والصحابة اختلفوا فيما بينهم، وأئمة المذاهب تفرّقت بهم السبل. والقرآن حمَّال أوجه، والنص المفتوح مظنَّة الاختلاف، ومن كل هذا تراكمت المعارف، وتنوّعت المفاهيم، وانفتحت شهية العلماء على البحث عن رؤى وتصوُّرات متباينة.
ومن تصوّر أنّ قوله الفصل، وأنه لا معقِّب لقوله، فقد عزل نفسه، وعطل مواهبه. كما أنّ مزيد الإعجاب بالذات موهن للعزمات، ومشتت للنظرات، وفاصل بين الذات والآخر. ولقد قرئ كتاب أحد الأئمة عليه - وأظنه (الشافعي) - عِدَّة مرات، وفي كل قراءة يزيد، وينقص، ولما ملَّ من التعديل، صاح في طلابه: (أبى الله أَلَّا يتم إلاّ كتابه).
والعلماء الأشداء يرفضون الإذعان والتسليم للرأي الفطير، وكلمتهم التي امتطتها المتردية والنطيحة :- (نحن رجال وهم رجال) كلمة لها ما بعدها، ولكنها ليست مَقُولة حق مع كل من ادعاها.
ومن تعالى على النقد والمساءلة، فهو أشبه بالدخان، تعلو به خفته. و(عقدة الأبويَّة) ليست وقفاً على العامة، فالوجلون ينكفئون على ما توارثوه، ثم لا يتيحون للمقتدرين منهم فرصة البحث عن الأجدى والأهدى. وفترات التخلُّف والجمود والانحطاط هي الفترات الموبوءة بالاجترار، والتشبُّع بمقولة: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).
والسلفية التي أدين الله بها، لا تمت للمقلّدين بصلة، ولكنها تصدر من النص التشريعي، الممتثل لتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ) أو كما قال.
وإغلاق باب الاجتهاد مؤذن بفساد كبير، وقد تصدّى لهذا الفَرَقِ فريق من العلماء. فالأُمّة تُمْنَى بنوازل، تحتاج إلى أحكام، والأحكام كامنة في النصوص، ولا يجليها لوقتها إلاّ العلماء الجريئون بإمكانياتهم، لا بدعاويهم.
ومتى سلَّم العلماء لمن سلف، واكتفوا بالنقل والتقليد، جمدت الحياة، وأسنت مواردها. والمحطات المضيئة في حياة الأُمّة، هي لحظات الانتفاضات الفكرية المحسوبة، انتفاضات المتضلّعين من العلم، المتوفّرين على العقل، المتمكنين من البصائر، والمؤهّلين للاجتهاد.
وكم من عصر برز فيه لفيف من العلماء والمفكرين، أصبح مرحلة مفصلية في حياة الأُمّة، بدت فيه التحوُّلات، وصححت فيه المسارات، وأعيدت مراجعة الثوابت والمسلّمات.
ولقد بشّر الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلماء العدول، الذين ينفون عن الدين ما علق به. كما بشّر بالمجدِّدين على رأس كل مئة سنة. فحملة الدين من كل خلف عُدوله، ممن ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا مقلّدين.
فنفي التحريف والانتحال والتأويل الباطل، لا يتأتى لمن يجترون قول من سبق، لأنّ التحريف والانتحال والتأويل من ذلك الإرث الذي تعاقب عليه المقلّدون، وسلَّموا له. والتاريخ الحضاري للأُمّة الإسلامية مرَّ بفترات مضيئة، برز فيها مجدّدون، أحيوا موات السنّة، وصقلوا مرايا الدين، وأشعلوا في النفوس الحماس، لحماية جناب التوحيد، وامتثال أمر الله.
يتبع ...