|
حوار - فايز المزروعي:
المتابع لسلسلة التقارير التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة حول استهلاك المنتجات النفطية في المملكة، وعلاقة هذا الاستهلاك بارتفاع الأسعار، يرى أن بعض تلك الطروحات جانبها الصواب، وذلك لأن الطرح كان من منظور واحد فقط ، إضافة إلى توجيه اللوم عن نقص المعروض إلى المستهلك وتصويره على أنه لم يدخر جهداً في إهدار هذه المادة الحيوية مستغلاً رخص الأسعار، في حين أن مؤسسات مثل»الكهرباء» والتحلية»ما زالتا تستخدمان آلات انتهى عمرها الافتراضي تستهلك كميات كبيرة من النفط بسعر زهيد جداً نتيجة دعم الدولة، الأمر الذي أدى إلى تقاعسها عن تطوير معداتها، هذا بالإضافة إلى تجاهل عمليات التهريب إلى دول الجوار التي تتعامل بالسعر العالمي خلافاً للمملكة.. في هذا الحوار تسلط «الجزيرة» الضوء على المشكلة الرئيسية والحلول المقترحة مع رئيس مركز السياسات النفطية والتوقعات الإستراتيجية الدكتور راشد أبانمي، فإلى الحوار:
* بحكــم خبرتكــم وتخصصـكم في مجـال استراتيجيات الطاقة، هل ترون أن الوقت أصبح ملحا لاستحداث سياسات جديدة في استهلاك النفط محليا؟
في الوقت الراهن تحتاج المملكة إلى إتباع سياسة جديدة وهي تستهلك نفطها محليا بنسب عالية سنة تلو الأخرى، خصوصا وأن المملكة تستخدم النفط ومشتقاته لتوليد نصف الطاقة الكهربائية التي تستهلكها البلاد والتي ينمو الطلب عليها بمعدل 8% وقت الذروة، فيما يتم استهلاك ربع إنتاج النفط محليا عبر الاستخدامات المختلفة.
* هل سيؤثر ذلك على اقتصاد المملكة مستقبلا؟
إذا كانت المملكة تعتمد في 90% من مواردها المالية على تصدير النفط، فإنه يجب المحافظة على هذا السلعة وترشيد استهلاكها محلياً وبشكل صحيح، حتى لا يختفي هذا المورد، واضرب مثالا على ذلك بإيران عندما اختفت 25% من مواردها المالية التي كانت تجنيها عن طريق تصدير النفط، حيث تأثر اقتصادها الذي لا يعتمد بالدرجة الأولى على النفط لوجود موارد كثيرة، ورغم تنوع اقتصادها إلا أن عملتها المحلية الريال الإيراني فقد أكثر من 70% من قيمته، كما ارتفع التضخم إلى أكثر من 22%، والآن يعاني الاقتصاد الإيراني أزمات اقتصادية حادة، رغم أنها لم تفقد كل مواردها المالية من النفط، حيث تقوم بتصدير نحو 50% بطرق شرعية ونحو25%عن طريق السوق السوداء، وفي حال استمرار المملكة في الاستهلاك المفرط للنفط - فإن ذلك يؤثر في اقتصادها بشكل كبير على المدى المتوسط، وانهيار شبه كــامل عـلى المدى البعيد، لذا يجب النظر إلى الترشيد المدروس بتمعن لأنه الأساس في حـل المشكلات الاقتصادية.
* من وجهة نظركم كيف تعمل الحكومة والمواطنون سوياً وبتوازن على كبح الاستهلاك المفرط لاستخدام تلك المادة الحيوية؟ وكيفية ترشيد استهلاكها من دون أن يكون في ذلك ضرراً على الوطن أو المواطن؟
الحل يكمن في المشكلة نفسها، وعليه فإن المجازفة بإلقاء التهمة هنا أو هناك أو بوضع حل واحد ومباشر لا يأخذ في الحسبان طبيعة المشكلة وتبعاتها والظروف المحيطة بها، سينتج عنه في حالة تطبيقه تضحيات جسيمة وغير عادلة لجزء كبير من شرائح المجتمع، وعليه فإن القدرة على مواجهة المشكلة تكمن في تجزئة أو «تفكيك» المشكلة نفسها إلى جزئياتها الأساسية، ولا بد أن نتعامل مع تلك المعضلة التي تواجهها الآن على أنها مشكلة نمت وتطورت على مدى فترة زمنية وبسبب ظروف كانت ملائمة لنموها، وعليه يجب مواجهة الظروف التي فرضت على المواطن الحاجة إلى استهلاك تلك المادة بهذا الحجم ومن ثم محاولة وضع الحلول لكل جزئية منها على حدة ومن مجموع تلك الحلول سيكون الحل الكلي لتلك المشكلة، وتأسيسا على ما سبق ومن ذلك المنظور فإن جزئيات مشكلة ارتفاع استهلاك وقود البنزين تتمثل في الحاجة إلى التنقل من مكان إلى آخر، الحاجة إلى استخدام المركبات الخاصة في التنقل، تزايد الطلب وتراكم الطلب عليه، ورخص ثمن الوقود وكثافة استخدام مركبات عالية الاستهلاك، إذ إن لكل جزئية من المشكلة لها جزئيات أخرى أقل منها أهمية.
* أود منكم تناول هذه الجزئيات بشيء من التفصيل؟
عند الوقوف أمام الجزئية الأولى المتمثلة في الحاجة إلى التنقل من مكان لآخر، فإنه يكاد لا يختلف اثنان على أن الحياة تكاد تتوقف إذا انعدم التنقل من مكان إلى آخر، والتنقل من مكان إلى آخر هو حق لكل مواطن تضمن سهولته الحكومة لجميع فئات وشرائح المجتمع، ولقد كان نتيجة التوسع الأفقي للمدن في المملكة تدني نسبة السكان في الكيلو متر المربع في ظل غياب وسائل فاعلة ومنظمة للمواصلات العمومية الاعتماد شبه الكلي على قضاء أعمالهم وحاجاتهم باستخدام كل عائلة أو شخص سيارته الخاصة مسببة في ذلك مشكلات كثيرة ومتراكمة لا حصر لها، تبدأ بالازدحام والاختناقات المرورية وما يسببه ذلك في الضغط على المرافق العامة وهدر للوقت والمال والصحة، مروراً باستنزافها موارد اقتصادية إلى آثار سيئة وتلوث مضر بالصحة والبيئة، وعليه فإن على الحكومة أن تتخذ إجراءات أكثر عملية وصرامة تبدأ بنفسها أولاً وأجهزتها ومنشآتها، وذلك بأن تقوم الحكومة مثلاً بالحد من استخدام المواصلات الخاصة والاستهلاك المفرط للوقود من قبل الأجهزة الحكومية ومؤسساتها والتوجه مثلاً إلى إلغاء بطاقات البنزين المجانية التي تقدم للموظفين والتوجه إلى تقييد كل منشأة حكومية بدفع قيمة الاستهلاك الفعلي للوقود وبالتكلفة الحقيقية، إلى جانب وضع معايير محددة وصارمة لترشيد استهلاك الوقود لكل الأجهزة الحكومية، حيث إن مثل هذه الإجراءات من شأنها ترشيد الاستهلاك وتوفير أموال طائلة في حكم المعدومة وستكون من نصيب صندوق تنمية المواصلات وتطويرها المزمع إنشاؤه تزامناً مع رفع الدعم عن الوقود كما سنرى لاحقا، أما فيما يخص الجزئية الثانية فلابد من العمل بشكل فوري على تطوير أنظمة المواصلات العمومية وتنظيمها لجعلها أقل تكلفة وزيادة الطرقات المخصصة للنقل العام، مما سيوفر بدائل ملائمة تجعل المستخدمين أمام خيار التخلي عن سياراتهم الخاصة التي ستكون أكثر تكلفة من تلك البدائل التي تتوافر في أنظمة النقل العام وخدماته، وفي الجزئية الثالثة لابد من وضع رسم تنمية موارد مواصلات على رخص تسيير السيارات وفقا لهيكل متدرج طبقا لسنة موديل السيارة واستهلاكها للوقود بدءا من حد أدنى وحد أعلى وذلك للحد من السيارات القديمة أو السيارات ذات الاستهلاك العالي للوقود، أما في الجزئية الرابعة من المشكلة فانه يجب إلغاء الدعم على سعر وقود السيارات وتعويض المواطن مباشرة ببدل محروقات، وذلك بزيادة المعاشات باقع تلك النسبة كعوض لتكلفة علاوة محروقات خاصة وتضاف للمعاشات، بحيث يتم تعويضهم من خلال شرائح المجتمع بدءا بالمنتسبين للضمان الاجتماعي الذين يتجاوز عــددهم الآن حسب تقرير الضمان الاجتماعي 600 ألف عائلة ، وكذلك جميع عمال وموظفي الدولة والمتقاعدين، وحث المنشآت الخاصة على دفع بدل علاوة محروقات خاصة لعمال وموظفي تلك المنشآت الخاصة، وذلك لمساعدة جميع شرائح المجتمع على تحمل التكاليف الإضافية على المحروقات إذا هم اختاروا الاستمرار في استهلاك الوقود بالوضع الحالي، ولكن وبالتأكيد سيلجأ معظم تلك الأسر إلى صرف بدل المحروقات ذلك إلى أولويات المعيشة الأخرى الذين هم أكثر حاجة إليها من صرفها على الوقود، مما سينتج عنه بالتأكيد ترشيد طوعي لاستهلاك الوقود، أما إجمالي العوائد السنوية المتوقعة من رفع الدعم عن المحروقات فسيكون نواة لصندوق يمكن أن يطلق عليه «صندوق رسم تنمية موارد مواصلات» وتخصيص مبالغ صندوق رسم تنمية موارد مواصلات لتحقيق أهداف المواصلات على المديين المتوسط والبعيد ويكون نقطة انطلاق لتصميم نظام مواصلات متطور ومتنوع في مدن المملكة وتوجيه تلك العوائد والاستثمارات إلى رفع مستوى الطرق بشكل عام وإقامة خطوط داخلية في المدن وعبر المدن للمترو وللسكك الحديدية والقاطــرات والحــافلات التي بدورها ستفيد البلاد كثيرا لفترة طويلة مقبلة، وستكون إرثا دائما للأجيال القادمة.
* ذكرتم أنه لابد من تقييد كل منشأة حكومية بدفع قيمة الاستهلاك الفعلي للوقود وبالتكلفة الحقيقية كنوع من تقليل استهلاك الوقود، هل هناك جهات تعمل على استهلاك الوقود بشكل مفرط؟
على سبيل المثال، الدعم السخي الذي حظيت به كل من شركة الكهرباء والمؤسسة العامة لتحلية المياه من قبل الدولة من خلال منحها خام النفط بسعر زهيد يراوح بين خمسة دولارات و12 دولارا، أدى إلى تراخيهما في البحث عن بدائل تطويرية في عمليات الإنتاج والتوليد والتشغيل، بدليل اعتمادهما حتى الآن على الآلات ومولدات يعتبر عمرها الافتراضي قد انتهى، مما يعني ازدياد استهلاكها للنفط بشكل مفرط لقدم هذه الآلات.
* نفهم من ذلك أن هناك ضرورة قصوى للتركيز على الترشيد؟
طبعا وخصوصاً إعادة النظر في تعامل الحكومة مع شركة الكهرباء والمؤسسة العامة للتحلية اللتين تستخدمان النفط في عمليات الإنتاج والتشغيل وبأسعار زهيدة جداً، حيث يحصلان على النفط مقابل مبالغ رمزيه تراوح بين خمسة دولارات و12 دولارا للبرميل، بينما السعر عالميا يصل إلى 120 دولارا للبرميل، وأود أؤكد هنا على ضرورة وضع سعر عادل للنفط أي بالسعر العالمي لكل من «الكهرباء» و»التحلية»، وفي حال رغبت الدولة في تقديم أي إعانات لهاتين المؤسستين فهنالك عدة طرق لفعل ذلك، ولكن منح النفط الخام بسعر زهيد، كما يحدث الآن، يشجعهما على عدم البحث عن أفضل الطرق لترشيد استهلاك النفط، وكان من الأهمية ألا يطلب من المواطن البسيط الترشيد في الاستهلاك بينما «الكهرباء» و»التحلية» لا تقومان بهذا الدور في الأساس.
* في رأيكم لم هاتين الجهتين تستهلكان النفط بشكل مفرط؟
يرجع ذلك إلى أن الآلات والمولدات المستخدمة في كل من «التحلية» و»الكهرباء» قد انتهى عمرها الافتراضي، مما يعني استهلاك مفرط للنفط، ولكن هاتين الجهتين: «التحلية» و»الكهرباء» لا تفكران في استبدالها أو تحديثها باعتبار أن ذلك يكلفهما أعباء مالية إضافية، لذا فإنهما لا يجدان حرجا في استهلاك النفط طالما أنهما يحصلان عليه بأسعار رمزية، حيث تستهلك هذه الآلات والمولدات أضعاف ما تستهلكه الآلات الحديثة، إذ إن هذا الأمر قد لا يدفعهما إلى إتباع عمليات تحديث وتطوير في مشاريع الإنتاج والتشغيل لديهما.
* ما الحل من وجهة نظركم؟
في حال اضطرت كل من «الكهرباء والتحلية» لشراء النفط بأسعاره عالميا، فإنهما بالتأكيد ستعملان على إتباع عمليات الترشيد في الاستهلاك، بدءاً باستبدال الآلات المستخدمة في عمليات الإنتاج والتشغيل بهدف ترشد استهلاك النفط في عملياتهما والذي سيقلص استهلاكهما من النفط إلى النصف، وفي حال تمت إعادة النظر في سعر الخام الممنوح لـ «الكهرباء» و»التحلية» فإنهما أيضا ستلجآن إلى البحث عن بدائل أخرى أقل سعرا من النفط، كاستخدام الطاقة الشمسية أو الرياح، أو حتى الطاقة النووية في عمليات الإنتاج والتوليد، ومحاولة الاستثمار في البحوث والتطوير في هذا المجال، مما يفتح آفاقا استثمارية أخرى ويشجع هاتين المؤسستين المهمتين في هذا المجال، ولا يخفى على أحد أنه إذا استمرت الدولة في منح «الكهرباء» و»التحلية» النفط بأسعار زهيدة فإن الدولة ستجد نفسها مساهمة بشكل مباشر في زيادة الاستهلاك المحلي للنفط، وبشكل غير مباشر في الحد من عمليات التطوير والتحديث لإيجاد بدائل لإنتاج الطاقة في هاتين المؤسستين.
* هل الاستهلاك المفرط للوقود يعني أن المملكة تواجه عقبات في عمليات التصدير خلال الأعوام المقبلة، وتقليص استهلاكها محلياً من النفط الخام؟
المملكة لا تواجه أي عقبات في عمليات التصدير خلال الأعوام المقبلة، وتقليص استهلاكها محلياً من النفط الخام، خاصة أنها قادرة على زيادة إنتاجها من النفط وبالتالي سيرتفع إنتاجها من الغاز المصاحب، نظراً لأنه كلما زاد إنتاج البترول الخام زاد إنتاج المملكة من الغاز نظراً لطبيعة الغاز المصاحب المنتج مع النفط، فالمملكة تنتج حاليا 9.4 مليون برميل يومياً، يصاحب ذلك إنتاج للغاز الذي يستهلك بالكامل محلياً، ما يعنى أن أي زيادة في إنتاج البترول تتبعها زيادة في كمية الغاز المستخرج، وبالتالي يحل ذلك الغاز محل النفط الخام المستخدم محلياُ وخصوصاً في استهلاك المولدات الكهربائية ومحطات تحلية المياه، مما يعني أن الزيادة في إنتاج البترول سترفع إنتاج الغاز المصاحب الذي سيحل محل استهلاك النفط محلياً، فكلما زاد إنتاج النفط نقصت احتياجات السعودية من النفط الخام محلياً وزادت عمليات التصدير من النفط نتيجة إحلال الغاز المتزايد إنتاجه، أي بمعنى آخر أنه إذا كان إنتاج المملكة تسعة ملايين ونصف المليون برميل يومياً وتستهلك محلياً كل الغاز المصاحب، إضافة إلى مليون ونصف المليون برميل من النفط الخام محليا، فإن الباقي للتصدير ثمانية ملايين برميل يومياً، بينما إذا زاد إنتاجها مليون أي إلى 10.5 مليون برميل فإن حصة التصدير تزداد 1.5مليون برميل، لأن الاستهلاك المحلي للنفط سيتقلص بإحلال الغاز المصاحب لإنتاج الزيادة تلك، أي أنه كلما زاد إنتاج النفط قلَ احتياج المملكة من النفط الخام محلياٌ، نتيجة الاعتماد على الغاز المصاحب.
* هل لعمليات استهلاك الوقود من خلال طرق التهريب الشرعية بحكم تعدد منافذ المملكة على عدة دول تبيع الوقود بأسعار عالية له دور في ارتفاع نسبة الاستهلاك الداخلي؟
استهلاك المملكة للديزل والبنزين يعتبر استهلاكاً عالياً في ظل وجود عمليات تسرب أو «تهريب شرعية» كما هي الحال عندما يقوم أصحاب مركبات وسيارات وقوارب وسفن من دول الجوار للمملكة بتعبئتها من محطات الوقود داخل المملكة مستفيدة من رخص الأسعار، إضافة إلى طرق تهريب أخرى غير شرعية سبق الكشف عنها أكثر من مرة، حيث يتم تهريب نحو 30% من استهلاك النفط السعودي إلى دول الجوار، وأن هذه النسبة تعتبر عالية جدا، مما يتطلب إعادة النظر في أسعار المشتقات النفطية محليا لتكون قريبة من الأسعار في دول الجوار، وكما هو معروف فإن للمملكة حدودا مع كثير من الدول، وذلك للحد من عمليات التهريب، وبالتالي تستفيد المملكة محليا من نسبة الـ 30% التي يتم تسريبها لدول الجوار، كما أن هنالك نحو سبعة ملايين مقيم في المملكة يملكون أغلبهم سيارات متهالكة، مما يعني زيادة معدل استهلاكهم من المشتقات النفطية بشكل كبير .. ونستكمل غدا الجزء الثاني والأخير.