أكتب هذا المقال لا لأنني أحد منسوبي المؤسسة الأكاديمية فحسب؛ بل لإحساسي الوطني بما يحسن النظر إليه في هذا الشأن لقطاع مهم في بلادنا؛ وهو القطاع الأكاديمي، فلا يكاد يصدق أحد أن العالم والباحث والمفكر المهموم بشؤون البحث العلمي وقضاياه وبهموم من يشرف عليهم من تلامذته وبملاحقة المستجدات في تخصصه الأكاديمي وبالاستعداد لمحاضراته ودروسه وندواته وأوراق العمل التي يشارك بها هنا وهناك يتقاضى راتباً هزيلاً لا يكاد يسمن أو يغني من جوع، راتباً شُرع وقنن من سنوات طويلة مرت بلادنا خلالها بطفرات اقتصادية، وبحالات تضخم وغلاء، وهو لا يشعر بما حوله من متغيرات اقتصادية وما يقتنصه البعض من غنائم الكسب والتربح إلا بما يثقل كاهله به أبناؤه وعائلته من مطالب، وما يلاحقونه به من إلحاح لتحسين أوضاعهم سكناً أو تأثيثاً وغيرها من متطلبات وضرورات المعيشة، ولكنه منصرف عن اغتنام ما يمكن أن يحسن وضعه لو تفرغ له واكتسب المهارات اللازمة؛ هو في شغل عن ذلك كله ببحوثه ودراساته وأوراق عمله ومقالاته وندواته؛ فكيف يكسب الدين والدنيا وما أحسنهما وأجملهما لو اجتمعا؛ ولكنهما في مثل حالاته تكاد تكون من المستحيلات، وحين أَشفق عليه من تلطف وعني به وهو مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - أطال الله في عمره- أمر له ببدلات تحسن وضعه وتحد من الهروب المستمر من الحقل الأكاديمي إلى أماكن الإغراء المالي وما أكثرها بالنسبة للأكاديمي من شركات ومؤسسات وغيرها في القطاع الخاص، وقد أدت هذه البدلات جزءًا مما يراد لها أن تؤديه، فخففت من ظاهرة هروب الأكاديميين إلى القطاع الخاص، واستقطبت أصحاب الشهادات العليا من وزارات مختلفة فانضموا إلى الجامعات أساتذة وباحثين؛ ولكن هذه البدلات التي حسنت قليلاً من الوضع البائس للأستاذ الجامعي لعبة في أيدي إدارات الجامعات وعمداء كلياتها وأقسامها؛ وقابلة لعشرات التفسيرات بالمنح أو المنع، وخاضعة للقرب والبعد، ومهيأة أيضاً للتحوير والتدوير؛ بحيث تصبح الندرة غير ندرة، ويغدو غير النادر كبريتاً أحمر، ويضطر الأستاذ إلى إثبات ما لا يستحق أن يثبت باستخدامه أدوات ووسائل العصر التي لا يمكن أن يستغني عنها طالب الثانوية؛ فيجمع أوراقاً من بريده الإلكتروني ومقالات أرسلها إلى مجلات علمية ليثبت أنه يستخدم الكمبيوتر! أو يملأ له رئيس قسمه الذي قد يكون أحد تلامذته المحدثين خانات إكمال النصاب بإشراف غير حقيقي عى رسائل مازالت في طور الاقتراح، أو إرشاد أكاديمي لا يستحق بذل جهد يذكر، وكل هذا التحايل لإضافة البدلات إلى راتب الأستاذ التي قد تشح إلى درجة الاستجداء بخطابات توسل إلى مدير الجامعة، أو تكثر إلى درجة التخمة حسب التفوق في إثبات ما يوجب إضافة البدلات!
وللغنى عن كل هذه الحيل، واستجابة للقناعة التي دعت خادم الحرمين الشريفين إلى وضع هذه البدلات، وحماية للبحث العلمي، ودفعاً لغائلة الحاجة والعوز عن أستاذ الجامعة ما الذي يمنع تثبيت بدلات الحاسب الآلي والنصاب والندرة فلا تخصص في العلم غير مهم ولا نادر لكل الأساتذة بغض النظر عن رتبهم العلمية؛ وإضافة بدل التميز لمن يثبت تميزه في أي حقل علمي أو نشاط ثقافي أو إعلامي يخدم الجامعة التي ينتسب إليها، ويضيف للوطن نتاجاً وحراكاً وحضوراً في محافل علمية أو ثقافية في الداخل أو الخارج، بما يشارك به أساتذة الجامعات من مشاركات في مؤتمرات، أو وسائل الإعلام المختلفة.
إنه من غير المقبول أن يعود أستاذ الجامعة بعد تقاعده وبعد أن تضخمت أسرته وكثرت التزاماته العائلية والاجتماعية إلى ما يقرب من مرحلة البدايات بعد خدمة وظيفية تقرب من أربعين عاماً؛ حين تُقشع كل البدلات من راتبه قشعاً ولا يجد من عمره الوظيفي الذي أفناه في مؤسسته الأكاديمية عاكفاً في محراب العلم إلا قبض الريح!
وليس من اللائق أن تتعامل الأنظمة الإدارية القابلة للتفسير والتحوير والخاضعة للأمزجة والعلاقات والصلات مع نخبة المجتمع وأصحاب الرأي والفكر بهذا المستوى المتواضع من التقدير المادي، ولا يليق بأستاذ الجامعة وهو في نظر مجتمعه المتميز علماً ورصانة واتزاناً ومنزلة أن يتكفف ويتعفف عن كثير مما يرتع فيه من هم أقل شأناً ممن يشتغلون باللهو أو اللعب والعبث والتهريج باسم الرياضة أو الفن، أو يثقل بالديون والقروض ليسكن أو يبدل سكناً أو يزوج ابناً أو بنتاً، أو يصد عن واجبات اجتماعية كثيرة لتواضع دخله وعدم وفرة ما يمكن أن يدخر منه لمثل هذه المفاجآت. ولو نظرنا إلى راتب أستاذ الجامعة الأساسي بدون إضافة أي بدل لوجدناه بالفعل يدعو إلى الرثاء؛ فكيف بباحث يتفرغ بعد الجامعة لدراسة الماجستير ويفني فيها سنوات من عمره، ثم يفني ضعفها في مرحلة الدكتوراه، ويتصدى بعد ذلك لأداء أشرف مهنة، وهي مهنة بناء العقول وتكوين المفهومات وإعداد حملة شعل العلم والتنوير والبحث والإضافة والاكتشاف؛ ثم لا يجد بعد كل هذا الكدح والجد راتباً يلبي متطلبات أسرته الناشئة؛ فكيف به إذا كبرت هذه الأسرة وتضخمت طلباتها؟! ويصيبه أشد الغبن حين يرى الشركات الخاصة كسابك أو أرامكو أو الاتصالات وغيرها تمنح من هو أقل منه مستوى تعليمياً أضعاف أضعاف ما تقطر به عليه جامعته، مع منح تلك الشركات حوافز أخرى لا يحلم بها كالتأمين الطبي بأعلى فئة وبدل السكن والمواصلات!
إنه لمن المؤمل والمنتظر من خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- إعادة النظر في وضع أساتذة الجامعات؛ إما بتأسيس سلم جديد يتوافق مع المتغيرات الاقتصادية ويحفز على الاستقطاب وتنشيط البحث العلمي، أو تثبيت كل البدلات القائمة الآن على اختلافها لكل الأساتذة على اختلاف مستوياتهم العلمية.
وإننا بإغناء الأكاديميين عن الاشتغال بأمور العيش وطلب تحسين أوضاعهم المعيشية بالعمل في جهات وقطاعات أخرى تصرف كثيرين عن مهماتهم العلمية الأصلية؛ فإننا نكسب عودة البحث العلمي والأساتذة إلى مقاعدهم وإلى معاملهم محاطين بمشاعر التقدير والعرفان لوطن كريم وقيادة سخية يدفعهم إلى مزيد من البذل والعطاء.
لا نريد أن نقول عن أستاذ الجامعة: ذلك مسكين أدركته حرفة العلم والأدب!
moh.alowain@gmail.commALowein@