رغم كل التطورات العالمية التي يشهدها عالمنا التي كان أبرزها بالطبع الانتخابات الأمريكية التي خرج فيها أوباما منتصرا، إلا أن ما يؤثر فينا حقا هي الأحداث الداخلية التي قد تقلق الناس وتدفعهم للتساؤل. وفي اعتقادي شخصيا أن نجاح موسم الحج وخلوه من أي أوبئة أو حوادث جوهرية أو وفيات كبيرة يعد هو الإنجاز الأعظم بكل المقاييس لحدث هو دائما الأضخم في الأجندة المحلية حين نأخذ التجمع العالمي للحجيج الذي فاق الثلاثة ملايين والفترة الزمنية القياسية التي يقضونها في كل مشعر.
لكن وكأن هذه السنة العزيزة لا تود أن تغادر دون أن تترك أثراً عميقاً يذكر بكل ما جري ويجري في بلادنا منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر المشئومة، وهو النشاط الأخير لأجنحة القاعدة في جنوب المملكة واستهدافها لبعض جنودنا الأسبوع الماضي ومحاولات تهريب الأسلحة والذخائر التي تمكنت قواتنا على الحدود من إفشالها. مثل هذه الحوادث حتى لو أصبحت -بحمد الله- محدودة إلا أنها تعيد الصورة المربكة إلى الأذهان وتطرح التساؤل عن الجذور الفكرية والتنظيمية لتنظيم القاعدة التي بدأنا ومنذ السنوات الأولى في محاولة للتعامل معه وفهمه وتفكيكه لكن هل نجحنا فعلا؟
ما أزال أتذكر وقد كنت ضمن أول عشر نساء أتيحت لهن فرصة المشاركة في مناقشات الحوار الوطني في مكة المكرمة في ديسمبر 2003 وكان موضوعه الغلو والاعتدال.. رؤية منهجية شاملة (كنا عشر نساء مقابل خمسين رجلاً!!) (اليوم الأعداد دائماً متساوية بين الرجال والنساء في لعب الأدوار المطلوبة في الحوارات الوطنية! ما أجمل اليوم مقارنة بالأمس):
أقول ماأزال أتذكر الكم الهائل من التوصيات التي تمت بهذا الخصوص التي جاءت لتؤكد الضرورة القصوى للعمل على تتبع منابع الإرهاب الفكرية في المدارس والجامعات وكافة المؤسسات الاجتماعية الأخرى المؤثرة في حياتنا كأفراد وجماعات مثل الأسرة والمسجد والجمعيات الخيرية والأنشطة اللاصفية في المؤسسات التعليمية. وبعد ذلك اللقاء جاء لقاء المدينة المنورة في يناير 2004 لمناقشة ظاهرة التطرف والغلو، وأسفر هو الآخر عن 17 توصية ستدهشون حين أخبركم أن بعضاً منها انتقل فعلاً من مرحلة التوصية إلى مرحلة التنفيذ (أياً كانت نوعية هذا التنفيذ وآلياته)، لكن في الحقيقة ها نحن نختبر أنفسنا ونجد أن بعض التوصيات المجتمعية تجد فعلاً طريقها إلى التنفيذ مثلاً:
* (تطوير مناهج التعليم في مختلف التخصصات على أيدي متخصصين بما يشيع روح التسامح والوسطية وينمي المهارات المعرفية بما يحقق التنمية الشاملة مع تأكيد المراجعة الدورية لها.
* دعم المناشط الطلابية غير الصفية.
* تعزيز دور المرأة في كافة المجالات وإنشاء هيئات وطنية مستقلة تعنى بشؤون المرأة والطفل.
* الدعوة لمن يريد الإقلاع عن العنف والفساد في الأرض والرجوع عن أخطائه وعدم نبذه والتشدد في معاملته والعمل على دمجه بالمجتمع.
* وضع إستراتيجية شاملة تساعد على استقطاب الشباب وتبعدهم عن الغلو والتطرف والتدريب والتوسع في برامج القبول في مؤسسات التعليم المختلفة.
* التأكيد على التوازن في الطرح الإعلامي لقضايا الدين والوطن ووضع منهجية علمية لذلك تبعد الفرقة والشتات وتراعي التنوع الفكري والمذهبي).
ومن الواضح أننا حققنا بقيادة الملك عبدالله الكثير في سبيل تجاوز أسباب الفرقة ودعم تطوير المناهج التعليمية عبر التغييرات الكثيرة التي عملت مثلاً -ولا تزال- وزارة التربية والتعليم على إحداثها في مناهجها وممارساتها الإدارية.
وضع المرأة السعودية هو الآخر شهد نقلة نوعية متميزة، وفي كثير من المجالات، ففتحت للمرأة أبواباً من التعليم والتدريب والتوظيف ما كان ينظر له كحلم، وما زالت آمالنا بمزيد من المكتسبات تقود صراعنا مع القوى الأخرى التي تحاول جر المجتمع إلى الوراء.
كما أننا كلنا تابعنا ولا تزال المحاولات المجتمعية الحثيثة سواء تلك التي تقودها وزارة الداخلية أو وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أو المؤسسات التابعة لها من دعوية وإرشادية لفتح الباب أمام الفئات التي اختارت العنف أو تم تضليلها، وذلك لتوفير القبول والمظلة الحكومية والاجتماعية بحضانتهم وتأهيلهم ودفع ما عليهم من ديون وتزويجهم وتيسير العمل لهم باعتبارهم مواطنين صالحين ضاعوا في خضم الصحوة، لكننا كمجتمع لا نزال نراهم بعيون الأب والمعلم والقائد، وهذا هو أقل ما يمكن توقعه من مجتمع قبلي ومحافظ كمجتمعنا. لكن حين تأتي النتائج عكس المتوقع ويستمر تساقط الإرهابيين من برامج المناصحة المختلفة ليعيدوا تهديد أمن هذا البلد واستقراره، ويقتلوا بعض عناصره الأمنية، فهنا يجب التوقف بحزم لمراجعة أساليب هذه البرامج ووضع الآليات التي تبرر المبالغ المالية والجهد البشري المصروف عليها.
أود التأكيد أن كل ما نقوم به لن يكون له أثر طالما لم يمس تفكيك البنية الفكرية لهؤلاء الإرهابيين وتقديم بدائل تقنعهم فكرياً بضرورة التخلي عن مناهجهم. هؤلاء شباب أذكياء جداً ومخلصون وواضح أنهم متفانون، مما يعني أنهم في مراحل شبابهم لم يجدوا بدائل فكرية وأنشطة إنسانية أخرى مطروحة عبر المدرسة والمسجد والجمعية، وكل ما كان أمامهم للحصول على أهداف سامية يشعرون معها برضى الضمير والقبول من قادتهم وأقرانهم سوى تبني الفكر الإرهابي والإقصائي الذي كان مقبولاً بالمناسبة ويروج له لعقود.. فمن إذن المسئول عن ضياعهم وإيذائنا وتهديد أمننا؟ إنها مؤسساتنا ذاتها التي تعمل بين أحضاننا وفي كل زاوية من هذا الكيان.. عمر مديد يا وطن... حتى يحين موعد إيقاظنا!