تحدثت في المقالة السابقة عن: منطقة الجوف ووادي السرحان في عصر الدولة السعودية الثانية، والآن أتحدث لكم عن هذه المنطقة بعد عصر الدولة السعودية الثانية، فأقول وبالله التوفيق:
يقول الرحالة الفرنسي شارلز هوبير(1) (Charles Huber): بأنّ الشعلان من أشهر عشائر قبيلة الرولة التي أصبحت منذ فترة قريبة ضمن قبائل منطقة القريات ووادي السرحان.(2)
وقد جاء الاهتمام الشعلاني بالمنطقة في أواخر عصر الدولة السعودية الثانية, حيث ذكر الرحالة الألماني يوليوس أويتنج(3) (Julius Euting) أنّ شيخ قبيلة الرولة الشيخ سطام ابن شعلان(4) قدم إلى دمشق مع نهاية سنة 1286هـ-1869م وبداية سنة 1287هـ-1870م، وناقش مع صبحي باشا ومحمد سعيد باشا موضوع منطقة القريات التي هي بعيدة عن سيادة وسيطرة الدولة العثمانية المباشرة, على الرغم من كونها أرضاً مثمرة وغنية بالمياه, وفيها قرىً عديدة يمكن للدولة العثمانية الاستفادة من ضرائبها, مبدياً استعداده التام بإقناع بدو الرولة أن يسكنوا هذه القرى ويقوموا بدفع تلك الضرائب للدولة العثمانية.(5)
ولما وجدت هذه الفكرة استحسانهما, أخبرهما أنه - ولكي يتحقق لهم ذلك - لابد لهما أولاً من السيطرة على منطقة الجوف؛ فصدرت الأوامر بتحرك الفيلق العثماني من دمشق إلى الجوف, وفي الوقت نفسه انطلق محمد سعيد بقواته عن طريق معان, فكانت حصيلة الجيش العثماني الذي قدم لمنطقة الجوف هي: (200) جندي خيَّالة, و(60) جندياً مترجّلاً, و(80) رجلاً من البادية, ومعهم مدفع صغير, حيث تمكن بهذا الجيش من دخول منطقة الجوف.(6)
لكنهم في النهاية: غادروا المنطقة بعدما تضوَّر جندهم جوعاً, وأصبح الأعداء يحيطون بهم من كل جانب.(7)
وهذا الأمر أكده أحد سكان منطقة الجوف للرحالة يوليوس أويتنج عندما تحدث له عن الحملة العثمانية على منطقة الجوف سنة 1287هـ-1870م.(8)
وتبيّن بعض الوثائق العثمانية دور الشيخ هزاع الشعلان(9) البارز في مساعدة الجيش العثماني أثناء دخوله لمنطقة الجوف؛ وهو ما جعل الدولة العثمانية تمنحه النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة, وسيفاً بقيمة ألفي قرش.(10)
أما المحاولة الثانية للسيطرة على منطقة القريات فهي التي قام بها الشيخ نوري ابن شعلان, وكان يهدف إلى السيطرة على القوافل التجارية التي بين العراق وسوريا والأردن وفلسطين من جهة، وبينها وبين منطقة نجد وشمالي الجزيرة العربية من جهة أخرى.(11)
وقد نجح الشيخ نوري ابن شعلان في إحكام سيطرته على المنطقة سنة 1327هـ-1909م, بسبب ضعف الوجود العثماني فيها من جهة, ولانضمام قبائل المنطقة إليه من جهة أخرى، خاصة قبيلة الشرارات(12) القبيلة الرئيسة في منطقة الجوف ووادي السرحان(13), حيث تشير إحدى الوثائق العثمانية إلى أنّ ابن شعلان أصبح قوة لا يستهان بها في المنطقة.(14)
استفحل أمر الشيخ نوري ابن شعلان وأصبح يقوم بمهاجمة أهالي حوران(15) وجبل الدروز(16), ويستولي على ماشيتهم وإبلهم, بل إنه قام بهجمات عدّة على نواحي دمشق.(17)
ووصل به الأمر إلى أن أسقط اسم الخليفة العثماني من خطبة الجمعة في مساجد قرى المنطقة.(18)
ونتيجة لذلك؛ قام الوالي العثماني في الشام باعتقال الشيخ نوري ابن شعلان وسجنه, وظل ابن شعلان مسجوناً حتى استطاع الرحّالة ألويس موسيل(19) (Alois Musil) إقناع الوالي العثماني في الشام بإطلاق سراحه سنة 1327هـ-1909م(20), فعاد الشيخ نوري ابن شعلان إلى المنطقة برفقة موسيل في الوقت الذي تمكن فيه ابنه نواف من احتلال منطقة الجوف, فنادى بأبيه أميراً عليها.(21)
لكن سجن الشيخ نوري ابن شعلان السابق، لم يمنعه من الدخول في صراع مع حليف الدولة العثمانية ابن رشيد على منطقة الجوف, بل وصل الأمر بابن شعلان إلى أنه أصبح يدعو إلى ضرورة الانفصال عن الدولة العثمانية, حتى قالت بعض الوثائق العثمانية - في تلك الفترة - بأنّ وجوده أصبح مضراً بمصالح الدولة العثمانية.(22)
وازدادت مخاوف الدولة العثمانية من الشيخ نوري ابن شعلان بعدما برزت الحركات القومية في أواخر الدولة العثمانية, لاشتباهها بوجود صلات تربطه بها, فقامت باعتقاله للمرة الثانية في شهر رجب 1329هـ- يوليو1911م ؛ بل إنها أقالته عن مشيخة قبيلة الرولة في شهر شعبان من تلك السنة ووضعت مكانه ابن أخيه فارس بن فهد ابن شعلان(23).(24)
وقد تزامن ذلك مع تقدم بعض أهالي المنطقة بشكاوى إلى الوالي العثماني في الشام, يشتكون فيها من سوء معاملة الشيخ نوري ابن شعلان لهم, وتعديه على بعضهم(25)، فوجد الوالي العثماني في الشام فرصته في ذلك.
وبعدما قامت الحرب العالمية الأُولى (1333-1337هـ-1914-1918م)، اتبعت الدولة العثمانية سياسة احتواء كل القوى المحلية الموجودة في الجزيرة العربية استعداداً للحرب, فقامت بإطلاق سراح الشيخ نوري ابن شعلان من السجن، وأعطته العهود والمواثيق بأنها ستقوم بمساعدته بعد انتهاء الحرب العالمية، إن هو وقف إلى جانبها.(26) [وهو وعد المضطر الذي لا يُرجى تنفيذه].
بل إنّ الوالي العثماني في الشام أرسل برقية عاجلة إلى نظارة الداخلية(27)، يطلب فيها النظر في إمكانية مكافأة الشيخ نوري ابن شعلان وزيادة راتبه.(28)
فجاءت مكافأته في الثالث من شهر ذي القعدة 1333هـ-1915م, عندما أصدرت الدولة العثمانية قراراً بتشكيل قائمقامية منطقة الجوف, وتعيين الشيخ نوري ابن شعلان قائمقاماً لها؛ وتشكيل لواء جندرمة عدده (2000-3000) جندي، أُسندت قيادته إلى الشيخ نواف بن نوري ابن شعلان، من أجل الحفاظ على الأمن في منطقة الجوف ووادي السرحان.(29)
ومنذ ذلك الحين, أصبح الشيخ نوري ابن شعلان يتبع للدولة العثمانية, واستمر ذلك حتى انضمامه وابنه الشيخ نواف للثورة العربية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الحواشي والتعليقات:
(1) شارلز هوبير: رحّالة فرنسي, وُلد في مقاطعة الألزاس سنة 1837م, قام برحلات عدّة, كانت أُولاها سنة 1874م, وإليه يعود الفضل في اكتشاف حجر تيماء الأثري, زار منطقة القريات سنة 1298هـ-1880م, قُتل وهو عائد من جدة إلى حائل في 29 يوليو 1884م, على يد أدلائه. البادي: الرحّالة الأوروبيون..., ص143-144.
(2) هوبير: رحلة...، ص29.
(3) يوليوس أويتنج: ويُعرف أيضاً بـ(جوليوس أوتنغ)؛ رحّالة ألماني زار منطقة القريات سنة 1301هـ-1883م, وُلد في مدينة شتوتجارت يوم 11 يوليو 1839م, حصل على الشهادة الجامعية من جامعة فورتمبرج, وبدأ رحلاته سنة 1869م, فزار تونس, والجزائر, ومصر, وفلسطين, وسوريا, وتركيا, واليونان, والجزيرة العربية, توفي في مدينة ستراسبورغ سنة 1913م. أويتنج: رحلة داخل الجزيرة العربية, ص11، 17؛ البادي: الرحالة الأوروبيون..., ص169-170.
(4) سطام ابن شعلان: هو الشيخ سطام بن حمد بن نايف, تولّى مشيخة قبيلة الرولة بعد مقتل عمه فيصل بن نايف, واستمر حتى وفاته سنة 1315هـ, وقيل: سنة 1322هـ. السويداء: من شعراء الجبل العاميين, ج2, ص9, 71-74.
(5) البادي: الرحالة الأوروبيون..., ص234.
(6) يشير شارلز داوتي إلى أنّ هذه الحملة كانت في سنة 1872م, وقوامها ثلاثمئة وخمسون مقاتلاً, انطلقت من معان بقيادة محمد سعيد باشا لأجل احتلال منطقة الجوف, وقد تمكنت من دخول المنطقة, لكنها عادت مقابل (1500) مجيدي تدفع سنوياً للدولة العثمانية.
Doughty: Charlles, Travels in Arabia deserta, London, 1888, pp. 47-50.
كانت هذه الحملة في عهد إمارة الأمير محمد بن عبدالله ابن رشيد الذي واجه تلك الحملة في منطقة الجوف, وذلك بعدما تولى الحكم في سنة 1289-1873م. البادي: الرحالة الأوربيون...، ص235.
(7) البادي: الرحالة الأوروبيون..., ص234-237. ولم يذكر الدكتور سعيد بن فايز السعيد هذه القصة مفصلة كما وردت في النص الألماني في ترجمته التي نشرتها دارة الملك عبدالعزيز. أويتنج: رحلة داخل الجزيرة العربية, ص76.
(8) أويتنج: رحلة..., ص76.
(9) هزاع الشعلان: هو الشيخ هزاع بن نايف الشعلان, والد الشيخ نوري ابن شعلان. صفوة: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية, ج2, ص93.
(10) برقية من والي الشام صبحي باشا إلى الصدر الأعظم برقم (I.DH. 45202), وتاريخ 11 صفر 1289هـ. (الأرشيف العثماني, دفتر العينيات، استانبول)؛ خطاب إلى ولاية سورية برقم (Ayniyat. 905), وتاريخ 11 ربيع الأول 1289هـ. (الأرشيف العثماني, دفتر العينيات، استانبول).
(11) الرضوان: الخيام السود في بلاد العرب..., ص24.
(12) لورنس: أعمدة الحكمة السبعة، ص204.
(13) فالين: صور من شمالي جزيرة العرب..., ص27.
(14) خطاب من قائد الجناح العسكري بحوران إلى ديوان الحربية العرفي برقم (3-60.DH.SYS), وتاريخ 3 شعبان 1329هـ. (الأرشيف العثماني, مضابط وزارة الداخلية, استانبول).
(15) حوران: اسم يطلق على سهل ممتد من الجمهورية العربية السورية شمالاً حتى جبل عجلون في المملكة الأردنية الهاشمية جنوباً.
(16) جبل الدروز: وهو ما يعرف قديماً بـ(جبل حوران), أطلقت فرنسا عليه هذا المسمّى عندما احتلت سوريا سنة 1920م, ومن هذا الجبل انفجرت الثورة السورية الكبرى (1925-1927م) ضد الاستعمار الفرنسي لبلاد الشام.
(17) خطاب من قائد الجناح العسكري بحوران إلى ديوان الحربية العرفي برقم (60-3.DH.SYS), وتاريخ 3 شعبان 1329هـ، المصدر نفسه.
(18) التنوخي: الرحلة التنوخية..., ص52.
(19) ألويس موسيل: رحالة تشيكوسلوفاكي, وُلد في سنة 1868م بقرية دشترز دورف الواقعة في جمهورية تشيكا, بدأ رحلاته إلى بلاد العرب في سنة 1896م, وساعد في رسم بعض الخرائط, لازم قبيلة الرولة ثماني سنوات, وألَّف عنهم كتاب: أخلاق الرولة وعاداتهم, وله كتاب: شمال الحجاز, وشمال نجد, والصحراء العربية, وكتاب تدمر, ووسط الفرات، توفي سنة 1944م. موزل: أخلاق الرولة وعاداتهم, ص م؛ البادي: الرحالة الأوروبيون..., ص356, 359-360.
(20) يشير الريس إلى أنّ الوالي العثماني في الشام بعدما أطلق سراح الشيخ نوري ابن شعلان, فرض عليه إقامة جبرية في ضاحية دُمَّر استمرت لمدة شهر تقريباً. الريس: جواسيس بين العرب..., ص83.
(21) الريس: جواسيس بين العرب..., ص84.
(22) خطاب من الصدر الأعظم إلى محافظ المدينة المنورة برقم DH.MUT.103-2-24)), ربيع الثاني 1327هـ. (الأرشيف العثماني, مضابط وزارة الداخلية, استانبول).
(23) فارس بن فهد الشعلان: هو فارس بن فهد بن هزاع بن نايف الشعلان. وثيقة بريطانية برقم (FO.141-430-5411).
(24) خطاب من قائد الجناح العسكري بحوران إلى ديوان الحربية العرفي برقم (60-3.DH.SYS), وتاريخ 3 شعبان 1329هـ، المصدر نفسه.
(25) خطاب من قائد الجناح العسكري بحوران إلى ديوان الحربية العرفي برقم (60-3.DH.SYS), وتاريخ 3 شعبان 1329هـ، المصدر نفسه.
(26) الريس: جواسيس بين العرب..., ص90.
(27) نظارة الداخلية: المقصود بها: (وزارة الداخلية), وهي تصنيف دفتري ضمن تصانيف الأرشيف العثماني في مدينة استانبول. صابان: مصادر تاريخ الجزيرة العربية في تركيا, ص23-24.
(28) خطاب من الوالي العثماني في الشام إلى نظارة الداخلية برقم (863), وتاريخ 2 محرم 1333هـ. (مكتبة الملك فهد الوطنية, صورة مايكروفيلمية للوثائق العثمانية، الرياض).
(29) قرار عثماني برقم (MV.241-116), وتاريخ 3 ذو القعدة 1333هـ. (الأرشيف العثماني, مضابط مجلس الوكلاء، استانبول).
وقد وردت في بعض تقارير البريطاني موريس: أنّ الوالي العثماني تحسين بك أوصى بتعيين الشيخ نواف بن نوري ابن شعلان أميراً على كاف (منطقة القريات), ومنحه وساماً عثمانياً من الدرجة الأولى. صفوة: الجزيرة العربية..., ج3, ص523.