جاء عند أبي داوود وصححه الألباني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
فهو أول مخلوق وقيل سبقه العرش، وإنما القصد بـ(أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب) هو أنه قال له اكتب أول ما خلقه، وليس معنى ذلك أنه أول مخلوق، ومع ذلك فهو إن لم يكن قبل العرش كما ذهب لذلك بعضهم إلا أنه يليه في الخلق فهو سابق لعظائم المخلوقات، بل هو الذي كتب به أنها ستخلق وتوجد من العدم، وفي هذا الحديث أنه جل وعلا قال له: (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) كل شيء مما دق أو جل وحتى التفاصيل اليسيرة، فذرات الرمال وقطرات الأمطار معلومة العدد مكتوبة المدد منذ خلق الله الأرض والسماء إلى قيام الساعة بخلاف الفلاسفة الذين يرون أن علم الله وكتابته لا تجاوز الأحداث الكبرى فقط.. استرخيت ذات مساء أمام البحر وكان في حالة هيجان وأمواجه تلطم وجه الشاطئ وتتكسر أعمدتها البلورية لتتطاير قطرات الماء بأعداد كبيرة قلت في نفسي سبحان من أحصاها وعدّها عداً وكتب ذلك ليس في هذه اللحظة، بل منذ كان هذا البحر إلى أن يسجَّر في اليوم الآخر، وأعظم من هذا أن هذه الكتابة كانت قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد عُرف القلم منذ عصور الإنسان الأولى وكُتب به ونُقش به على جدران الكهوف وخطَّ به على الرقاع واللخاف والجلود عند العرب وعلى دروع السلاحف وعظام الثدييات والبرونز (على الأسلحة أو الآلات الموسيقية) والحجارة والخيزران والخشب والحرير عند الصينيين والذين ظهر فيهم القلم، وهو عبارة عن إبرة معدنية تنقش على ما مر ما يريدون التعبير عنه، وكان ذلك من 3000 سنة ويُوجد بعض القطع البرونزية القديمة في متحف القصر ببكين كقطع shih pan و san kuo che tse pai pan.
تتنوع الأدوات المستخدمة كقلم عند الشعوب كافة ومن أولها الأصابع حيث يغمس من أراد الكتابة أو النقش أو التصوير في الأصباغ المتوفرة، وبعد ذلك انتقل للعيدان الخشبية والقصب ثم ريش الطيور ليأتي المعز لدين الله فيأمر بصنع خزان صغير للحبر يحمله القلم فيكتب دون الرجوع للدواة جاء في (المجالس والمسامرات) للقاضي حنيفة النعمان (ذكر المعز القلم فقال نريد قلماً يكتب بلا استمداد من دواة بحيث يكون مداده من داخله متى شاء الإنسان كتب به ومتى شاء تركه فارتفع المداد) المعز توفي 975م بينما لويس ووترمان 1884م، وهو الذي يُنسب إليه اختراع القلم!.
شاء الله أن يكون القلم أداة التعليم {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وزاد من شرفه وعلوه إقسام الله تعالى به على الوحي المكتوب {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ*مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} وكما بيَّن صلى الله عليه وسلم أن القلم خلق أولاً لكتابة المقادير وأما حديث (أول الرسل آدم وآخرهم محمد وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول من خط بالقلم إدريس).. فهو ضعيف جداً.
وجاء في سلسلة الألباني الصحيحة عن سيار عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم».
وقد ظهر القلم الآن وفشا وكتب الناس في شتى صنوف المعارف والعلوم وتعددت الآراء ولكل قلم نفس ومزاج ومرجعية وأصول، بل وتعدى الأمر ذلك فحمل القلم من ليس أهلاً ومارسَ الكتابة من يحسن ومن لا يحسن عبر الوسائل والوسائط التي أصبحت حلاً للجميع.
وفي سنن الترمذي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل).
وهو قلم التكليف فالله جل وعلا لا يكتب على أهل هذه الأوصاف الثلاثة، بل يرفع عنهم القلم فلا يكتب حتى تنتفي عنهم هذه الأوصاف.
ومما في القلم نثراً:
قال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، يسكت واقفاً، وينطق سائراً.
وقيل: كم من مآثر بنتها الأقلام فلم تطمع في دروسها الأيام.
ونظر المأمون إلى مؤامرة بخط حسن فقال: لله در القلم كيف يزين وشي المملكة!
قال بعضهم: القلم يزف بنات القلوب إلى خدور الكتب.
وقال ابن المقفع: القلم بريد القلب يخبر بالخير، وينظر بلا نظر).
وقال ابن أبي داود: القلم سفير العقل ورسول الفكر وترجمان الذهن.
وقال أيضاً: (القلم الدنيا والآخرة).
وقال أبو دلف: (القلم صائغ الكلام، مفرغ ما يجمعه القلم).
وقال أفلاطون: (الخط عقال العقل)، وقال أرسطاطاليس: القلم العلة الفاعلة، والمداد العلة الهيولانية، والخط العلة الصورية، والبلاغة العلة النامية)، وقال بعض الملوك اليونانيين (أمر الدين والدنيا تحت شيئين: قلم وسيف، والسيف تحت القلم).
وقال الجاحظ ونسبت لسهل بن هارون: (الدواة منهل، والقلم ماتح، والكتاب عطن).
نسبها الصولي للجاحظ في أدب الكاتب ونسبها أبو حيان في البصائر والذخائر لسهل بن هارون.
وقال سهل بن هارون: (القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره).
وقال عمرو بن مسعدة: (الأقلام مطايا الفطن).
وقال جالينوس: (القلم طبيب المنطق).
وقيل: (عقول الرجال تحت أقلامها).
وقال العتابي: (الأقلام مطايا الأذهان).
وقال عبد الحميد: (القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة).
ومما قيل في القلم شعراً:
قال ابن طباطبا:
إذا انتضى قلماً ليخطب.. خلت في يمناه نصلا
كم رد عادية الخطو.. ب وكم أعز وكم أذلا؟
يجري فيؤمن خائفاً.. ويصب في الأعداء نبلا
وقال بن ثوابة في القلم:
كالنار يعطيك من نور ومن حرق.. والدهر يعطيك من هم ومن جزل.. وقال أحدهم:
فلم يمج على العداة سمامه
لكنه للمرتجين سماء
كم قد أسلت به لعبدك ريقه
سوداء فيها نعمة بيضاء؟
قال محمد بن علي مفضلاً للقلم على السيف:
في كفه صارم لانت مضاربه
يسوسنا رغباً إن شاء أو رهبا
السيف والرمح خدام له أبداً
لا يبلغان به جداً ولا لعبا
فما رأينا مداداً قبل ذاك دما
ولا رأينا حساماً قبل ذا قصبا
وذهب إلى ذلك أيضاً ابن الرومي:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال محمد العلوي:
أخرس ينبيك بأطرافه
عن كل ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعة
يبدي بها السر وما يدري
كعاشق يخفي هواه، وقد
نمت عليه عبرة تجري
وقال آخر:
نواطق إلا أنهن سواكت
يترجمن عما في الضمير مكتما
وقال آخر:
وأخرس ناطق أعمى بصير
بليغ عند منطقه عيي
متى ترعف مناخره سواداً
يخبر عنك بالمعنى المضي
كتب بعضهم إلى صديق يستمد منه مداداً:
أنا أشكو إليك أن دواتي
هي عوني وعدتي وعنادي
عطلت من مدادها فاستعاضت
يقق اللون من حلوك السواد
لم تزل من بنات حام فجاءت
من بني يافث بغير ولاد
أنت للحادثات عدُّ صدقٍ
فترى أن تمدها بمداد
وللفائدة كان أحمد بن حنبل يتورع أن يستمد من غيره إذا انتهى مداده فلا يغمس ريشته في دواة من بجواره وهو يكتب الحديث بينما نراه في المقابل ينكر على من يتورع عن هذا من طلابه لمعرفته لنفسه ومعرفته لطلابه فلا يدقق في مسائل الورع إلا من استقام ظاهره وباطنه وتنزه عن الشيء الكثير من الحلال مخافة أن يقع في الحرام فمثل هذا جميل به الورع عن الاستمداد أما من قتل الحسين فلا يصلح له أن يسأل عن قتل البعوضة للمحرم..؟!
ومن نصائح محبي القلم:
قال الصولي لغلام: ليكن قلمك صلباً بين الرقة والغلظة، ولا تبره عند عقدة فإن فيه تعقد الأمور، ولا تجعلن في أنبوبة أنبوبة، ولا تكتبن بقلم ملتو ولا بذي شق غير مستوٍ.
وقال عبد الحميد الكاتب: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها.
وقيل: ليكن مقطك إذا قططت صلباً لئلا يتشظى القلم.
وأوصى بعضهم كاتباً فقال: أجد قلمك فالقلم الرديء كالولد العاق!.
وهذا من احتفالهم بالقلم واهتمامهم به.
t-alsh3@hotmail.comTALSH3 # تويتر