في الخليج هناك تجربتان: الأولى تجربة دبي، والثانية تجربة الكويت. هاتان التجربتان تشتركان في كثير من المعطيات الثقافية والجغرافية والديمغرافية والعادات والتقاليد وتختلفان فقط في أن الأولى (دبي) بلا ديمقراطية، والثانية (الكويت) بدأت الديمقراطية فيها منذ الاستقلال أي قبل خمسين سنة.
الآن تذهب إلى الكويت ومن ثم إلى دبي فتجد أن الفارق بينهما أكثر من خمسين سنة في كل شيء اسمه حضارة وتقدم وخدمات واستقرار على كافة المستويات. الكويت لا تنتهي من أزمة إلا وتبدأ في أزمة جديدة، والتنمية فيها تعاني بشكل واضح من قصور في كافة المجالات، والخدمات ليست كما ينبغي أن تكون في دولة نفطية ثرية.. وفي المقابل دبي تتغير وتتطور وتنمو مع كل يوم جديد، ما جعلها مهوى أفئدة المستثمرين القادمين من كل بقاع الأرض، والمقر المفضل لمكاتب الشركات العالمية في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن أنها بالمقاييس الاقتصادية البحتة انفكت من دول العام الثالث (الريعية) والتحقت بدول النمور الآسيوية (الإنتاجية) كما تقول أرقام الناتج المحلي، وتنوع القاعدة الاقتصادية لهذا الدخل.
تتساءل: ما الذي جعل إمارة الكويت تبقى في مكانها، وجعل إمارة دبي تعانق السحاب؟
السبب ببساطة (الديمقراطية)!
الديمقراطية تحتاج (أولاً) وقبل كل شيء إلى تنمية بشرية تجعل من حق الاختيار الديمقراطي أداة قادرة على اختيار الأصلح؛ فإذا كان الإنسان في ظل الديمقراطية ما زالت ولاءاته وانتماءاته التقليدية الموروثة قبل الديمقراطية قوية وحاضرة وفاعلة فإنه سيوظف الآلية الديمقراطية لنصرة تكويناته البدائية، فالقبلي سينتصر لقبيلته وليس الأصلح. والطائفي سينتصر لطائفته وليس الأصلح؛ والمؤدلج سينتخب من هو يوافق أيديولوجيته حتى وإن ساقه إلى الهاوية حضارياً، وهذا ما حصل في الكويت. ففي الكويت لا يهتم الناخب ببرنامج المرشح الانتخابي وخدمته للاقتصاد مثلاً، وإنما المهم من هي قبيلته، أو طول لحيته، أو من تكون الأسرة التجارية التي ينتمي إليها. فمن يقرأ التركيبة التي دائماً ما تأتي بها انتخابات مجلس الأمة الكويتي يجد أنها تتكون من ثلاثة اتجاهات: الأول: الأســـر التجارية العريقة المكونة تاريخياً للكويت قبل النفط. الاتجاه الثاني: أبناء القبائل وأغلبهم كانوا قبائلاً رحلاً لكنها استقرت وتحضرت شكلياً وأبقت ولاءاتها الموروثة كما كانت عليه قبل الاستقرار والتحضر. الاتجاه الثالث: الاتجاهات المذهبية والتي تشكل أقلية في النسيج المجتمعي الكويتي السني وأعني بهم هنا الشيعة تحديداً. وفي ظل غياب أحزاب أو أية تشكلات مدنية عن الحياة الديمقراطية في الكويت، حلت هذه التكوينات الموروثة محل الأحزاب فكرستها؛ وبدلاً من أن تتحول الكويت في ظل الديمقراطية إلى (وطن) لكل مواطنيه تحولت إلى (كتل) قبلية وطائفية وتجارية وفئوية متناحرة؛ فالانتماء للقبيلة أو للطائفة يأتي قبل الانتماء للوطن، ودخلت على الخط التوجهات السياسية (الإسلاموية) واستغلت هذه التكوينات، فأصبحت المماحكات السياسية والطائفية والقبلية والفئوية والتجاذبات بين أطياف المجتمع المختلفة هي الشغل الشاغل للسلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية، وليست التنمية وصناعة الإنسان والارتقاء بالخدمات، ومن يقرأ في أدبيات (ثوار) الكويت ومطالباتهم فلن يجد أن (التنمية) تشكل هماً من هموم الخطاب السياسي الكويتي، ما جعل الديمقراطية هناك تتحول إلى عائق تنموي حقيقي، وأصبحت المماحكات السياسية في الكويت أشبه ما تكون بمماحكات الساسة اللبنانيين؛ تسمع جعجعة ولا ترى طحنا. وأقولها بمنتهى القناعة: لو بدأت دبي بالديمقراطية قبل التنمية لما وصلت إلى ما وصلت إليه.
لذلك كان مرسوم أمير الكويت حول تعديل طريقة الانتخابات النيابية هو عين الصواب بكل المقاييس؛ فالديمقراطية عندما تصبح وسيلة للغوغاء والانتهازيين والمتاجرين بالدين فلا بد من الحزم والحسم، وإلا فالفوضى.
إلى اللقاء.