أشعر في لحظة حزن عميق يسكنني عند وفاة عزيز أو قريب أو صديق وكأنما تحولت الحياة إلى محطة وداع كبيرة، نودع فيها كل يوم راحلاً أو راحلة عن دنينا الصاخبة، ونحن في واقع الحال لسنا استثناء من الحق الإلهي، والراحلون عندما نودعهم بألمنا وحزننا وحسرتنا، أو ننثر في مساراتهم للحياة الأبدية حروفنا المخنوقة بغصة مرارة الفَقْد، فهم لا يحسون بنا، لكن واقع الحال وهول المشهد يبثان لنا صورة النهاية لكل كائن بشري حي على وجه هذه الأرض، وهي سُنَّة سرمدية منذ خلق الله الإنسان وأجرى أقداره. وعند الإيمان بالقدر المحتوم من رب العباد نعيش رغم انكساراتنا المتتالية وجرعات المصائب المرة في أمان بدنيانا؛ لأننا أدركنا بعمق إيماننا أن ما هو مقدَّر كائنٌ لا محالة، وأن عيشنا في قلق دائم وخوف مستمر لن يؤخِّر عنا القدر؛ لذلك انصرفنا لننشغل في حياتنا طلباً للمعاش وتحقيقاً لأمر ربنا بعمارة الأرض، والسعي في طلب الرزق. هذه النفحات الإيمانية العميقة تمنحنا قدرة هائلة على الصمود، ثم التسليم والرضا بأقدار الله - عز وجل -.
مع مطلع شمس كل يوم، وعند الغروب، تنقل لنا الأخبار نبأ رحيل عزيز لدينا، أو على الأقل من يعيش في ذاكرتنا من بني آدم، حتى ولو كان بعيداً عنا بجسده، وتغيب عنا دوماً ملامحه فلا نتبينها إلا لمماً. وفي هذا العام تحديداً رحل من المحطة ذاتها، الفاصلة بين عالَمَيْن، أكثر من حبيب وقريب وعزيز وصديق، وجار كان وفياً، وزميل كان قريباً إلى القلب، كأشد ما يكون القرب، ونسيب في نسبه فَخْر، لا لحسبه ولا لماله، وإنما لسمو أخلاقه وعفته ورفعة نفسه عن كل دنيء لا يستحق أن يضيع دنياه في معاقرته، ولجمال روحه وأُنْس مجلسه وصفو حديثه وطيب معشره.. رحل وترك الحسرة في النفس، وبقايا من أمل بأن يكون الخير الباقي في الخلف؛ فصلاح الآباء يدرك الأبناء ولو بعد حين. وعندما كنا نقف في المحطة لتوديع من أحببناهم ونحن مطأطئو الرؤوس، لا نستطيع الحراك السريع، ولا حتى إطالة النظر في الوجوه الشاخصة، كنا وسط الجموع الغفيرة في موقف مهيب، وكان كل واحد منا يسترجع شريط ذاكرته، فلا يرسخ من ذكريات الفقيد إلا المواقف الجميلة والأخلاق الحميدة وأعمال الخير والتوسيع على المحتاجين.. ومن لا تسجل الذاكرة من مواقفه الجميل والمحمود مما يشهد به شهود الله في أرضه فبأي وجه سيقابل خالقه؟ صحيح أنه سيُمحى من ذاكرة المخلوقين لكن سيئاته حتماً لن تُمحى من كتابه، ويبقى تحت مشيئة ربه.
تجرعتُ مرارة الفَقْد مرات، واعتصرني الألم كرات، وتلبسني الإحساس بالوحدة من رحيل ووداع من أحببتهم، أو من تركوا في نفسي أطيب الأثر. لن أكذب أو أتجمل، ولكن لم يكن فَقْد أشد عليّ من فَقْد أمي وأبي، ثم أقاربي المقرَّبين، لكن رحيل الطيبين يترك في نفسي أثراً عميقاً؛ فبرحيلهم تنقص مزايا الحياة.
ويوم الأحد الماضي رحل عن الدنيا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن راشد الحديثي، وهو واحد من الذين سكنتهم الطيبة وحب الناس، عاش حياته محباً لوطنه ولمجتمعه، لم أقابله يوماً إلا وكانت بشاشته تسبقه، والابتسامة لا تفارقه، كان مشجعاً ومحفزاً لي عندما ألتقيه. رحمه الله، وغفر له، وإلى جنات الخلد مع كل الطيبين الذين غادروا الدنيا ومحطتها الفانية، والعزاء لأهله وذويه.
Shlash2010@hotmail.comتويتر @abdulrahman_15