ما أكثر الكتب التي تطرحها المطابع في الأسواق، لكن يمتاز بعضها بدلالته وواقعيّته بما جاء فيه والعائد على القارئ من فائدة، والكتاب الذي بين أيدينا مع صغر حجمه هو محاضرة لسمو الأمير سلمان بعنوان: “الأُسس التاريخية والفكرية للدولة السعودية”..
.. بارزة الفائدة منه، وموثقة مصادره بما دلّ عليه كل سطر فيه، وبما دبّجه أقلام المعلِّقين والمعلِّقات، وما ظهر على ألسنة المتابعين أثناء المحاضرة وبعدها التي تمّت في رحاب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالجامعة الإسلامية، تلك الجامعة التي أُسست على تقوى من الله، ونفع سبحانه بمن تخرّج منها في بلادهم، بتأصيل العقيدة، وتمكين دين الله الحق في القلوب في بلاد متعطشة للعلم الصافي.
أما المؤلِّف فهو عَلَم من الأعلام في توثّقه من تاريخ الجزيرة العربية، لأنه عاشق ومهتم بدقائقه، ورجاله الموثوقين، ومن ثمّ تاريخ الدولة السعودية في أسسها ونشأتها وفي أدوارها الثلاثة، بعدما تصافحت يدا الإمامين: محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب عام 1157هـ، فصارت هذه البيعة ركناً من أركان الدولة في أدوارها حتى الآن، وأصبحت هذه البيعة وثيقة أساسية ركيزتها راية التوحيد، التي يلتفّ حولها الجميع من أُسر وقبائل: حاضرة وبادية، كما جاء في نفس الوثيقة التي جدّدتها المحاضرة، وسار عليها عملاً وتأسياً الأولون والآخرون. ينظر (ص22-26) من نص المحاضرة.
ولم يكن هذا الارتباط في إقامة دولة ذات سيادة، ومن أبنائها في الجزيرة العربية، ووافق بسرعة ما في قلبيهما وفق ما تداولا من رأي في بيت الإمام محمد بن سعود حيث تعاهدا على نصرة دين الله، وتحقيق دلالة كلمة التوحيد التي بها سعادة الدنيا والآخرة، لأنّ المحبة للدين متأصّلة في قلب الإمام محمد بن سعود - رحمه الله -، بدليل أنّ بعض أولاده وذوي قرابته، وزوجته التي أشارت إليه بخير ساقه الله إليه، فكانوا طلاّب علم ومحبين للخير، حيث وقر في طلب الإمام حب الاستجابة لدعوة الشيخ، فكبُر الإحساس الذي استيقظ في طلب الإمام واتفقا على المسيرة ببركة الله.
ومع صدق النوايا والوفاء بالعهد، نمت شجرة الدعوة وغطّت أغصانها الجزيرة العربية، وكلما اعتراها ضرر في الأدوار الثلاثة قامت من جديد، وسهّل الله لها قائداً جديداً يرفع الراية ويعينه الله في المسيرة بصدق وإخلاص في أرض بكْرٍ قابلة للنمو والتكاثر وتلافي أسباب التعثّر، والأخير يأخذ درساً يعينه على التجديد بعد التوكُّل على الله، كما كان الملك عبد العزيز - يرحمه الله - حسبما قال الرّيحاني يتمثّل بهذا البيت:
نبني كما كانت أوائلنا “م”
تبني ونفعل “فوق” ما فعلوا
حيث غيّر مِثْل بـ فوق وهذا ما بان وحصل بلسان الحال والمقال، ويردّد في مسيرته - رحمه الله - بيتا شعرياً:
إذا مات منا سيد قام سيّد
قؤول لما قال الكرام فعول
وفي التسلل حيث غيّر - رحمه الله - أموراً كثيرة وسار على منهاجه بنوه، يزيد اللاّحق على ما عمله السابق.
- وفي مطلع هذه المحاضرة بدأها سموه الكريم بمطلع جيّد، يسمّيه النقاد: براعة الاستهلال، إذ قال سموه بعد حمد الله والسلام على الحاضرين: لقد أكرم الله عزّ وجلّ المملكة العربية السعودية، بأن تتشرّف بوجود مكة المكرمة، وفيها أول بيت للناس، ومهوى أفئدة المسلمين، وقبلتهم التي يتجهون إليها في صلواتهم ودعائهم، وفيها مسجد نبيّه الكريم الذي ختم الله به رسالاته، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبأن تكون هذه البلاد أيضاً منطلق الإسلام والعروبة معاً، فلقد أنزل الله في هذه الأرض العربية القرآن الكريم بلغة عربية، وعلى نبيٍّ عربيٍّ عليه أفضل الصلوات والتسليم.
وانتشرت قبائلها العربية في كل مكان لتشكّل النسيج الاجتماعي في الكثير من الدول العربية، وقيادة تلك البلاد وشعوبها الذين يفتخرون بأنّ بلادهم هي موئل الرسالة وموئل العرب، ويدركون أنّ تلك مسئولية عظيمة يتحلوّن بها لخدمة وطنهم والإسلام والمسلمين.
ولهذا بُنيتْ هذه البلاد على الدين الإسلامي وخدمة المسلمين، ونصّ نظامها الأساسي، في مادته الأولى: على أنّ المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما نصّ نظامها الأساسي في المادة (87)، وهما الحاكمان على هذا النظام، وجميع أنظمة الدولة، وأنّ الحكم فيها يقوم على أساس ذلك، والشورى والمساواة وفق شريعة الإسلام (ينظر ص25 - 26 من الكتاب).
وقد ربط سموه هذه المحاضرة، وما قامت عليه الدولة السعودية منذ عام (1157هـ) ومسيرتها بما سعدت به طيبة الطيبة، بعدما حلّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها موطناً لنشر دعوة الإصلاح، والأُمّة تترسّم خطاه (ينظر ص26- 28).
مستمدّاً من تاريخ عثمان بن بشر نموذجاً واقعياً لآثار الفرقة والاختلاف (ص28 - 30).
ومستشهداً برأي لابن خلدون عن نظرته للعرب: وأنهم لا يحصل لهم مُلْكٌ إلاّ بعصبيّة دينية من نبوة أو ولاية، وقال: وهذا هو الذي تحقق حيث قامت الدولة على أساس الدين فكان لذلك أثر كبير من حيث الأمن والاستقرار والازدهار (ص29).
ونمكّن لهذا زيادة عما قاله سموه، بمن يقرأ مسيرة الملك عبد العزيز - رحمه الله - المؤسس لهذا الكيان، والذي وحّد الله سبحانه بجهوده وبُعد نظره، وما تعبّر عنه خُطَبُه التي جاءت في جريدة أم القرى، وما تحدث به في مواسم الحج، منذ يسّر الله له دخول مكة مع رجاله مُحْرمين وملبِّين.. بعدما حُرموا من ذلك سنين.
ثم ما تحقق على يديه منذ ذلك التاريخ، وقد سار على نهجه بنوه في إعمار بيت الله الحرام، ومسجد الرسول الكريم، وما تم في المشاعر من أعمال، إلى جانب ما أُنفق بسخاء على شتى مرافق الحياة، لهو دليل على صِدْق النوايا وأمانة العمل، وينطبق على ذلك بيت الشعر السابق الذي ذكر الريجاني أن الملك عبد العزيز يستشهد به، إذ ظهر الانبهار على ألسنة الحجاج والزوار عاماً بعد عام.
- أما عن نسب قبيلة آل سعود فقد حققه سموه في هذا الكتاب: بأنهم من بني حنيفة مزيلاً شبهة وقع فيها بعضهم، ومؤيداً كبار السن من آل سعود كسمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن - رحمه الله - الذي يُروى عنه أنه يقول بذلك، آخذاً بقرينة أن سكناهم في الوادي الذي اقترن بهم سكناً، وقارناً ذلك بالزعيم الحنفي: ثُمامة بن أثال الذي أسلم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه وهو مطاع فيهم، يا رسول الله لن يصل قريش ولا غيرهم من لاعرب الذين لم يسلموا حبّة قمح إلاّ بإذن رسول الله، وهذه أول حرب اقتصادية في الإسلام، ثم أفرج عنه برأفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الزعامة راسخة الجذور في بني حنيفة. (يراجع ص31-33).
ثم عرّج على نشأة الدولة السعودية وجذورها العميقة ما مكّنها في نهضتها الحديثة رجاحة عقل الإمام محمد بن سعود الذي تمّت البيعة بينه والإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله في تلك البيعة التاريخية لنصرة دين الحق، وبشّر كل منهما صاحبه بالعز والتمكين (ينظر ص33- 36).
ومع دوران عجلة الزمن الهادئية بأعمال يراد منها إطفاء نور الله، فقد انطفأت أنوارهم وعادت الدولة السعودية على يد الإمام تركي بن عبد الله - رحمه الله - الذي نهض بسيفه الأجرب لإعادة المهابة للدولة، إلاّ أنّ الشقاق والنفرة تأجّجت بين الإخوة، إلاّ أنّ الحق عاد لأهله منذ عام 1319هـ عندما عادت المهابة على يد الملك المظفّر عبد العزيز - يرحمه الله - عندما تمكّن مع 63 من رجاله السيطرة على الرياض بتوفيق من الله، ثم بشجاعته وحسن سياسته في ضم البلاد بعضها لبعض وتأسّست المملكة العربية السعودية. ثم قال مستشهداً:
يتضح ذلك من قول الزّكلي: وثب الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فقضى على من كانت الدولة العثمانية تغذّيهم وتمدّهم، ويشيعون الأكاذيب، فالتفَتَ الناس يتساءلون عن الوهابية، أي هي؟ فلا يجدونها، وإنما يجدون إسلاماً صحيحاً، ومذهباً حنبلياً ينتشر بين سائر مذاهب الأمم الإسلامية، وقد وثّق هذا من كتاب الزّركلي عن الملك عبد العزيز (ج2 ص833 - 834).
ثم قال: أين الوهابية التي يدّعيها أعداء الدولة السعودية وأعداء مبادئها الصحيحة؟ مستشهداً بصحيفة أم القرى، وخُطب الملك عبد العزيز التي ينفي فيها أقوال الخصوم ليصحِّح المفاهيم (ص26-41).
ثم من منطلق التصحيح في التأسيس الواضح للدولة السعودية، القائم على كتاب الله وسنّة رسوله الأمين، ومنهج السّلف، ومن منهج مضامين المنطلقات في الحكم ومبادئه للدولة السعودية وما قامت عليه إلى يومنا الحاضر، فقد أعطت الدولة السعودية، خصوصية متميّزة تسير عليها، وهذا من فضل الله على هذه الدولة التي حرص قادتها - واحداً بعد الآخر - في مسيرتهم على الدرب الذي رسمه عبد العزيز - رحمه الله - وفي مقدِّمة ذلك خدمة الحرمين الشريفين، وتيسير السُّبل لضيوف الرحمن حتى بلغوا في هذا العام رقماً قياسياً ومرّ بنجاح وسلام بحمد الله، فما زاد البلد بعد الرخاء والموارد الاقتصادية، إلاّ زيادة في الإنفاق على الأماكن المقدسة خدمة للحجاج وقد قرّظ هذه المحاضرة عدد من أصحاب الاختصاص رجالاً ونساءً وأثنوا عليها.
فالكتاب مع قلّة صفحاته إلاّ كما يُقال: وعاء مليء علماً، فهو يعتبر وثيقة مهمة في موضوعه، وهو فوق ما قلناه من تعريف، وننصح بالرجوع إليه لأخذ المعلومات من مصدرها، لأنه وفي نظري، أنه وثيقة مهمة في موضوعه التاريخيّ ولولا ضيق وقت المحاضرة لكبر حجمها ولعلّ سموه آخذ بالحكمة: ما قلّ ودلّ، خيرٌ% مما كَثُر فيملّ.
mshuwaier@hotmail.com