قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، صدق الله العظيم. في يوم الأربعاء ليلة الخميس الموافق 1-12-1433هـ توفيت والدتي (حصة بنت صالح بن محمد البراك) -رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى- بعد عمر ناهز الثمانين عاماً قضتها في طاعة الله وذكره. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم أجرها ويتغمدها بواسع رحمته ويجعل ما أصابها في ميزان حسناتها ومكفراً لسيئاتها ويرزقها فضل أيام عشر ذي الحجة.
أمي.. أول من وقع عليه بصري في هذه الحياة الفانية، استقبلتني بابتسامة وفرح وودعتني بهدوء فلم يعد بعدها الفرح له مكان وحتى الأحزان لا تنهش فينا، لقد غاب صوتها عنا وفقدناه بعدها لا يطربنا حديث أو فكاهة يوم رحلت فيه شمعة حياتي ونور أيامي.
ماتت أمي وتوارت عنا تحت أطباق الثرى فبكيت فراقها..
حبيب عن الأحباب شطت به النوى
وأي حبيب ما أتى دونه البعد
أمي مصدر الحنان والعطف والشفقة والرحمة. إن أمي مرت بابتلاءات عميقة نقشت ثقوب عميقة في قلبها فصبرت واحتسبت وظلت امرأة عابدة متصدقة كريمة متسامحة، واصلة حنونة، وفي التزاماتها امرأة حكيمة قوية غاب اسمها وجسدها من مسرح الحياة لكن ذكراها باقية في القلوب.
رحلت من ارتشفت في عينيها الحياة، رحلت من احبتني كثيراً وعلمتني، أمي تحت الثرى وأحس ملامحها بيدي.
أمي كانت في طفولتي المدرسية أيام كنت ابن السابعة أذهب إلى المدرسة راجلاً حافياً بالقرية وأعود مرهقاً متعباً فتقابلني بسعادة الأمومة وتحمل عني حقيبتي وربما حملتني حتى نصل إلى البيت، كنا ننام بجوارها في سطح منزلنا الطيني تتفقدنا لقراءة الورد وتقرأه علينا ونحن يداعب النوم عيوننا وأحياناً ننام وأحياناً نردد معها وتدهن عيوننا بمرهم العين لأننا نتعرض للمؤثرات طوال النهار في المزرعة وأحواش البهائم.
وكما قيل:
وكيف أمحوك من نفسي وذاكرتي
وأنت في القلب مثل النقش في الحجر
أمي عرفت حق ربها وزوجها فكانت عابدة طائعة اتفق على حبها الجميع، تبادلنا العطف والحنان والسؤال عن الصغير والكبير والغائب والحاضر، كانت تذرف الدموع لسرورنا فرحاً لنا وتحزن لغيابنا فتظل تنتظرنا وتتصل علينا بالهاتف للاطمئنان. كانت توصينا بوالدنا خيراً وتتابع طعامه ومكان راحته على كبر سنها ووهن أطرافها.
لقد أحبها الجميع ولم تبذل لهم مالاً ولكن منّ الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وأن المؤمن ليدرك بحسن الخلق الصائم القائم، وإن من أحبكم إلي وأقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)، فنرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعلها منهم.
الذي يزورها يظن أنه أغلى إنسان عليها وقد متعها الله سبحانه وتعالى -ولله الحمد- بعقلها رغم وهن أطرافها.
لم يكن في قاموسها البغضاء والكراهية فقد كان قلبها مفتوحاً للجميع، لقد كان الأطفال في ذاكرتها دائماً، كثيراً ما تسأل عنهم وتحتضنهم وتداعبهم فكانوا قريبين من قلبها.
أمي كانت في المستشفى صابرة محتسبة متفائلة، ثقتها بالله كبيرة، لا تسألنا عن أي نتائج أو رأي الأطباء بل كانت تسأل عن الوقت والصلاة، إنني أشكر أخواتي أم أحمد وأم إبراهيم لمرافقتها طوال إقامتها وخدمتها وتفقدها والمفاهمة مع طواقم المستشفى من أطباء ومختصين ونتائج الفحوصات والعلاج، وبعد وفاتها -رحمها الله- وتغسيلها كان إصبعها السبابة مرتفعاً وسألت المغسلة أختي هل هو مصاب، فاللهم أجعلها من مات على التوحيد. وحملها إخواني وأحفادها على أكتافهم من المسجد إلى القبر براً بها وأنا واقف على القبر في آهات وشجن لم تحملني قدماي فجلست. لقد رحلت أمي فتذكرت كلامها عندما رحلت والدتها (طرفة بنت عيسى المزيد) -رحمها الله- وكانت أمي تخيط ملابسنا للعيد عام 1389هـ وكنت أسمعها تردد:
أنا قضيت من قولة يمه
وحظكم ياللي تقولون يا يوه
وتردد:
الموت يامل إفراق العين
وياما أخذ الموت من غالي
وإني بفقد أمي أجدني بين هذين القولين، فرحمها الله وجمعها مع والديها بالجنة. وإني أستذكر هذا البيت:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وذكراك موجود بأنفاسي
إن أمي على كبر سنها ووهن أطرافها تصلي الفرائض وتحافظ على السنن الرواتب والوتر، صابرة محتسبة لا تشكو هماً إلا لله، تصوم الاثنين والخميس قبل وفاتها رغم حرارة الجو، جعل الله باب الريان عبورها إلى الجنة.
بيتها مفتوح لم تتضايق من ضجيج الأطفال ولا من الفوضى التي يحدثونها في بيتها وهي التي تحب الترتيب.
اللهم إنك تعلم إنها كريمة فأكرمها ورحيمة فارحمها، وتعلم أنها تألمت فصبرت وواجهت مصائب فاحتسبت فاجعله في ميزان حسناتها.
كانت تخدم زوجها ووالديه وضيوفه وأبناءها والأمر المتعلق بالمزرعة وبالمواشي، ورغم خشونة العيش إلا أنها أرضت والدي -حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية- في القول والفعل بالصبر وتحمل الشماق ولم ير منها ما يكدره.
مكانها بغرفتها تعمره بالصلاة على كرسيها وترحب بضيوفها ونجلس حولها مساء مع والدي -حفظه الله- نتناول الكلام في ظلها وحنانها وكانت كريمة تنشغل (لماذا لا تشرب قهوة يا فلان، الشاهي والزنجبيل جديد). وإن كان عندها ضيوف أشرت لأحدنا بيدها وتقول له سراً في أذنه نريد معروض (أي فاكهة)، وهذه من الشيم والأصالة والحزم. أما الصباح فيكون معها أخي عبدالعزيز (أبو عمر) الذي نذر نفسه ووقته وجهده لخدمتها ورعايتها، جعل الله ذلك في ميزان حسناته، وإن أمي مضت لخالقها وبقي النصف الباقي بعبدالعزيز، وأخي أحمد (أبو تركي) الذي جعلها جل اهتمامه ليل نهار ومتابعة حالتها وعلاجها، فجزاه الله خيراً وكما قيل:
صبراً لما تحدثه الأيام من حدث
فالدهر في جوره جارٍ على سنن
وقيل:
قد كنت أخشى أن أراك سقيمة
فكيف وقد أصبحتِ بالترب أعظما
نسأل الله أن يلطف بها وبروحها وببدنها وحال أخوتنا وأبنائنا ومن لهم صلة بها وهم ينظرون إليها وهي تدخل في اللحد واللبنات تُصف في باطن الأرض ودموعهم تنهمر حرقة وكأنهم يتمثلون بهذا البيت:
سلام على القبر الذي ضم أعظما
تحوم المعالي حولها وتسلم
إني أمي رحلت وغابت عنا تحت أطباق الثرى وأن إيماننا الجازم أنها قدمت على جواد كريم يحسن وفاده مَنْ وحَّده ورجاه وأطاعه ودعاه. وفي الجنازة جمع غفير من الأهل والأقارب والمحبين والزملاء شاركوا في الدفن والعزاء، شكر الله سعيهم وأثابهم ولا أراهم مكروهاً في عزيز لديهم، ونشكر من واسانا حضورياً أو عبر الهاتف من أماكن متعددة من المملكة.
وإني استذكر قول الدكتور إبراهيم السماعيل حفظه الله:
تساوت بعيدك لذات دنيا
فسكنى البراري كسكنى القصور
وإني بدونك يا نور عيني
تبدل كوني ظلاما بنور
وإني وربي علام حالي
لأبصر أنسي بين القبور
وإني واستغفر الله ربي
أقبّل قبرك رجوى الحبور
أقبّل قبراً أحس بأمي
تقبلني رغم تلك الصخور
يكاد فؤادي يطير لأمي
وليس سوى خالقي من مجير
ومما يخفف لوعات حزني
أبي بدعاء الشفيق الوقور
دعاء أبي حين ذكرك أمي
يفيض وفاء بصدق الشعور
ولا يجبر الرزء أماه إلا
يقيني بفضل الرحيم الغفور
يقيني بوعد إلهي يقيني
وعقبى الموحد دار السرور
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لوالدتي وأن يسكنها فسيح جناته ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة ويرزق والدنا الصبر والسلوان وإخواني وأخواتي وأعمامي وأخوالي وأحفادهم. وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراقك يا أماه لمحزونون. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ابنك إبراهيم بن صالح بن محمد القصير
المدير الإقليمي لمنطقة القصيم وحائل لشركة الراجحي للصناعة والتجارة