سماحة الوالد: أفتت لجنة الإفتاء الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز في فتوى 3791 بجواز بيع ثياب متر واحد بمترين مؤجلا. وهذا نص الفتوى «س: هل يجوز بيع ثياب متر واحد بمترين أو صنفين بصنف واحد؟ ج «يجوز إبدال الثياب بعضها ببعض مع التساوي، أو زيادة بعضها على بعض سواء كانت من جنس واحد أم أكثر، وسواء كان ذلك عاجلاً أو لأجل؛ لأن القماش ليس من الأجناس التي يدخلها الربا» ونحو ذلك أفتى مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم ويقول به الشيخ بن عثيمين، ولا أعلم أن أحدا من علمائنا يمنعها. ولو كان السؤال باستخدام كلمة قرض بدل بيع لأفتت اللجنة الموقرة بأنه حرام، لأن ذلك قرض. وربا القروض يجري في الأشياء كلها وليس في الأصناف الستة وما يقاس عليها فقط. وفتوى الجواز في حال البيع بينما يُفتى بالتحريم في حال القرض هو منضبط شرعا علة وحكمة ومنضبط عقلا وواقعا تطبيقيا في سنن الله الكونية في معاملات الناس، وسيأتي توضيح لهذه الانضباطية في آخر المقال. لذا، فلو سُئلت اللجنة الموقرة مثلا فإنها ستُجيز معاملة شراء سابك من أحد البنوك مليون برميل من النفط على أن تعيده بعد عام مليوني برميل نفط (وهو مطبق بكثرة بسلع متنوعة في عالم الاقتصاد اليوم). لكن ماذا لو أنها سُئلت عن شراء سابك مليون ريال على أن تعيده بعد عام مليوني ريال أو نصف مليون دولار، (فصورة المعاملة واحدة في النفط والريالات وهي استبدال مال بنفس جنسه بفضل ونسأ)؟ ستكون الإجابة بالتحريم، ليس لأنه قرض بل لأنه بيع ربوي، والسبب هو أن اللجنة الموقرة ترى قياس النقد الحديث على الذهب بعلة إطلاق الثمنية. وعلى ما تقدم: فيا سماحة والدنا مفتي المملكة: واليوم قد بان بطلان علة الثمنية المطلقة قولا واحدا بلا خلافها لانتفائها في الأصل (الذهب واالفضة) فما هي فتوى سماحتكم اليوم في تمول (مبادلة) سابك مليون ريال بمليوني ريال تؤديها بعد عام؟ فإن كان بالتحريم كما هي الفتوى اليوم، فما الذي يفرق الريالات عن القماش أو برميل النفط، وصورة المعاملة واحدة وقد بان اليوم بطلان علة الثمنية المطلقة.
سماحة الوالد: الفرق بين القرض والبيع علة وحكمة وحدا قد اختلط كثيرا على الفقهاء قديما، ثم زادت المتغيرات الحديثة المعقدة والترجمة لمصطلحات الاقتصاد الغربية الخلط على الفقهاء اليوم. والتعريفات الشرعية لمصطلح القرض تدور كلها حول الإرفاق وبأنه عقد معاوضة غير محضة، فهو تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء. ولكني لم أر تعريفا واحدا يضع حدا فاصلا يفصل الخلط الحاصل قديما وحديثا بين القرض والبيع، وإن كان الفرق بينهما - فطرة إنسانية- لا يخفى حتى على الصبية، لذا سكت عنه في القرون الأولى، لوضوحه ثم التبس على المتأخرين الأمر بعد ذلك، فحال المقترض والمقرض من الحاجة والإرفاق ليس كحال الشاري والبائع من العزة والاكتفاء. ومن أوضح دلائل الخلط وعدم الانضباطية في تفريق الفقهاء قديما وحديثا بينهما أنه لو طُلبت الفتوى في جواز إقراض بيضة ببيضتين لأجل، لحرمها الفقهاء. ولكن لو أن المُقرض قال أبيعك البيضة اليوم -على من هو محتاج للبيضة ليأكلها - على أن تنقدني إياها أونصة من الذهب بعد سنة لأفتى الفقهاء بجواز ذلك! رغم أن قيمة الأونصة تأتي بألف بيضة مثلا، (والمعاملة الثانية هو عمل الصيرفة المسماة بالإسلامية اليوم). فأين مقاصد الشريعة وأين الحكمة في تحريم مضاعفة البيضة ببيضتين لأجل، وتجويزها في نفس المعاملة بين نفس الشخصين ونفس أحوالهما إذا بودلت بما يساوي 1000 بيضة بشرط ألا تكون من نفس جنس البيض!!!
سماحة الوالد: الحكمة في تحريم ربا القروض -كما تراءى لي- هو الظلم بينما الحكمة في تحريم ربا البيوع في الأصناف الستة هي الاحتكارية كما وضحت في مقالاتي الأربعة السابقة وأنا في مقام المتعلم بين يدي سماحتكم طالبا من فضيلتكم رأيكم في هذا، واليوم أتمم بربا القرض.
فالنية هي أصل التفريق بين القرض والبيع كما هي الأصل في الدين كله عبادة ومعاملة واعتقادا. وبهذا الفرق نص شيخ الإسلام ابن القيم وابن عثيمين -رحمهما الله- بأن الذي يفرق بين القرض والبيع هو قوله عليه السلام: إنما الأعمال بالنيات. فكلا البيع والقرض مبادلة مال بمال بغض النظر عن تماثل جنسيهما أو عدمه. فإذا كانت على وجه الاستثمار أو غير الحاجة (كالترفه والتوسع) كانت المعاملة بيعا وجيز فيها الفضل والنسأ ما لم تكن من الأصناف الستة أو ما يقاس عليها. وأما إن كانت المعاملة على وجه الحاجة والمطلوب فيها الإرفاق كانت المعاملة قرضا -بغض النظر عن تماثل جنسيهما أو عدمه- وحرم فيها أي نفع زائد للمُقرض، وعلى هذا فلو كانت تمويلات البنوك قروضا لكانت كل تعاملاتها المسماة بإسلامية أو غيرها هي قروض ترجع نفعا عظيما على البنوك فتحرم كلها.
ومن أجل التوضيح بأن النية حد فاصل ومؤثر في حكمة نصوص الشرع في الربا والمعاملات التبادلية، أعود الآن لفتوى جواز بيع القماش بفضل ونسأ، وأطبق عليها الطرح النظري السابق، ففي حال بيع القماش بقماش مثله بفضل ونسأ، فإن المشتري قد يكون مستثمرا وجد فرصة مناسبة ربح، كأن يأخذ القماش ويجعله خلقا آخر في ملابس أو غيرها ويأخذ عوضا عنها ما يغطي مضاعفة ثمنها -المثلي - بربح له يخارجه رغم كلفة مضاعفة ترجيع القماش، فهذه حال خارجة عن موضوع القرض وطلب الإرفاق من البائع لحاجة المشترى، فهي معاوضة محضة والقماش ليس له علة يقاس بها على الأصناف الستة فخرج من ربا البيوع، والحكمة كذلك وافقت العلة، فالقماش له بدائل فلا يمكن احتكاره. وكذلك يقال فيمن أراد القماش للترفه والزينة. إما إن كان المشتري قد جاء طالبا الرفق والرحمة من مالك القماش وهو محتاج للقماش لاستخدامه حاجة شديدة لا ترفها ولا توسعا فهذا قرض فلا تجوز أي زيادة منفعة على قيمة القماش بغض النظر إذا كان سيرده قماشا أو ذهبا لكن بأضعاف قيمته، لأن هذا ظلم بكونه استغلالا لحاجة أخيك. لا كما في الصورة الأولى هو انتهاز فرصة استثمارية يريد الطرفين -البائع بتملكه القماش والشاري بخبرته- اقتسامها، وهناك الكثير من الحِكم الأخرى وهو كيف أن النقد اليوم بالتمويلات يدور بين الناس وينمي الاقتصاد لاستحالة احتكاره، فالحكمة من جوازه متحققة أكثر من القماش الذي ينتهي باستخدامه، وعلى عكس الذهب الذي سُيحتكر فيصبح موضعا للتجارة فيمتنع تدوير المال، والاسترسال في هذا يطول ويخرج كثيرا من كنوز معجزات التشريع التي خفيت على الناس اليوم بسبب تغير الأحوال مع جمود الفتوى وبقاء الناس على التصورات القديمة.
سماحة الوالد مفتي المملكة: السعوديون بل المسلمون قاطبة يتطلعون إليك وإلى علماء المملكة ليعرفوا دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو حق خاص لكيلا يتضرروا في معاشهم، كما هو حق متعلق ببيعة ولي الأمر الذي علم قدرك وأمانتك فصدرك للفتوى. فهل تمويلات البنوك قرض فهي حرام كلها أم تمويلات (مبادلات من باب البيوع) فهي جائزة لا تختلف عن القماش والنفط مما لا يقاس بعلة صحيحة على أحد الأصناف الستة؟ أعانكم الله سماحة والدنا الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ على المسئولية العظيمة الملقاة على عاتقكم، فأنت أهل لها وبذلك شرفك الله فجعلك اليوم مفتيا لديار الإسلام.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem