()ها نحن عبرنا مشارف عام هجري جديد 1434.. فكل عام وجميع المسلمين بخير.. تهنئة بجملة مباركة بسيطة المبنى والمعنى.. ولكن التفاصيل عند التأمل في تداعيات الكلمات تستثير الشجن لمن يحب هذه الأمة من أبنائها ويهتم بمستقبلها القادم.
ابتدأ المجتمع الإسلامي برسالة رجل أمي نقي تقبلها عشرات فمئات، فآلاف، فملايين من البشر.. وما زالت تنتشر حين يرى الآخرون تميز هذه العقيدة في المثاليات التي تدعو إليه.
مر أكثر من أربعة عشر قرناً منذ ابتدأ تاريخ هذه الأمة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مبتعداً عن استهداف قريش له بالمعاداة, ومستمراً في وضع أسس هذه الأمة التي ما زالت تتنامى بانضمام المزيد إليها في أصقاع الأرض البعيدة.. بلايين من الناس استمرت في تغيير دياناتها إلى الدين الجديد.. وبعد الفتوحات الأولى ظلوا ينضمون بخيار شخصي؛ جذبهم إلى الإسلام مثالية قيمة وما ينادي به من ممارسات راقية ترفع وعي البشر بإنسانية جميع الخلق ومساواتهم أمام الخالق.. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.. و»الدين المعاملة».. و»لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
وليس فقط بسبب المثاليات انجذبت البلايين -وما زالت تنجذب-، حيث ليس هناك ديانة أو عقيدة إلا وهي محملة بالنداء إلى المثاليات والتذكير بضرورة الالتزام بها وإن اختلفت المثاليات بين المجتمعات.
بلغت الحضارة الإسلامية شأواً عظيماً من التطور والرقي، وامتدت عبر القارات لأنها فتحت ذراعيها بحنان وفخر صادقين, وتقبلت كل من دخل في الإسلام من أي أصل في أرض الله، ومنحته وأبناءه حق الانتماء الكامل والعضوية الشاملة.. وتقبلت من أي فرد منهم كل ما أتاحته موهبته وتميزه الفردي وكل ما أمكنه أن يساهم به من علم ومعرفة وفن ومهارة وتخصص لبناء المزيد من تفوق المجتمع الحضاري.. كانت حضارة راقية تمارس مثالياتها وتحتفي بعطاءات أبنائها وتعطي لكل ذي حق حقه من التقدير والمكافأة.. بالتأكيد لم يكن سهلاً أن تمارس وتفرض ثقافة جديدة تشترط تطهير تصرفات المجتمع من جاهلية السلف سواء في الجزيرة العربية الأصل, أو في المقاطعات المنضمة إلى المجتمع الجديد متخلية عن انتماءاتها الأم؛ ولكنها نجحت في تحقيق ذلك, وبالتالي تمكنت من الاستمرار في الصعود حتى أصبحت الحضارة الأرقى التي يقلدها الآخرون غير المسلمين ويتقنون ويستخدمون لغتها في التواصل كلغة للمتعلمين والمثقفين والعلماء؛ في حين يحرص الآخرون أن يرسلوا أبناءهم لنهل العلم والثقافة من مراكزها المتنورة في شتى الحواضر.
كانت قوة ذلك المجتمع العولمي -بكل ما تعنيه العولمة من معنى راهن- أنه احترم تفوق المتفوقين من أي أصل جاؤوا وتقبل اختلافات الأفراد الشكلية والمظهرية، ودعم جوانب القوة المشتركة، وبنى المزيد من الإضافات إلى ما حمله القادمون إلى من سبقهم إلى عضوية المجتمع الإسلامي. كانت فعلاً حضارة راقية لم تهزأ من لون أو عرق أو اسم يدل على منشأ غير عربي.
وقتها كان تطبيق {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الدافع لممارسة مبدأ الدين المعاملة على أرض الواقع.. وإن أقربكم إلى الله من يقوم بالعمل متوخياً الإتقان والإخلاص ومخافة الله في ما يقرر وينفذ.
ولكن الأمة الإسلامية مع الأسف لم تعد في أغلبها اليوم ذلك المجتمع الواعي لكل تميز مثاليات العقيدة في ما دعت إليه من نقاء وقوة الممارسة اليومية على كل الجبهات وليس فقط جبهة العبادات.. ليتنا اليوم ندرك أن ذلك الوعي الراقي ما زال هو الطريق لتحقيق {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.