ليست هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن شخصيَّة هذا الرَّجل الرمز (معالي الدكتور ناصر بن إبراهيم الرشيد) ولن تكون الأخيرة بإذن الله.. لا لشيء إلا لأن مداخل ومفتاح القراءة الواعية لمثل هذه الشخصيات المجتمعية الشمولية والمتوازنة متنوّعة ومُتعدِّدة ولها فضاءات كثيرة ورحبة، ولذا تجد الكلَّ ممن يلتقون به ويتواصلون معه يعتقدون جازمين أن لهم فيه نصيبًا، بل ربَّما ظن الكثير منهم أنه هو الأهمّ والأقرب، وهو الحاضر دائمًا في خريطة تفكيره الساكن قلبه المتربع بين حناياه حتَّى لو لم يره في حياته ولو لمرة واحدة، ولكنَّه سمع عنه وامتدت يده الخيِّرة إليه بأيِّ شكل من الأشكال، والشخصيَّة محل الحديث لديها -في ذات الوقت- إيمان قاطع بأنها تعيش حياتها من أجل الغير، وفي سبيل إسعاد الآخرين من بني الإنسان خصوصًا المهمشين والمحتاجين وذوي العوز والعاهة والمرض، وهذا باختصار الفرق بين “الرَّجل الكينوني” و”الرَّجل التملكي” فالنَّمط الأول محوره الرئيس النَّاس كل الناس.. والصنف الآخر محوره الأساس الأشياء، حتَّى بني آدم يشيئهم وللأسف الشديد، إذ تسيطر عليه في حياته شهوة تملك المال والشهرة والسلطة والشهادة والإنسان و... فالدُّنْيَا تسكن قلبه وليست في يده!!
لقد زار معالي الدكتور ناصر بن إبراهيم الرشيد مطلع هذا الأسبوع حائل وذلك لحضور مناسبة افتتاح مركز الدكتور ناصر بن إبراهيم الرشيد لرعاية الأيتام وفي ذات الوقت وضع حجر الأساس لمقر النادي الأدبي بحائل التي تشرَّف برعاية كريمة من لدن مقام صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز أمير المنطقة، ومن بين الأماكن التي تشرّفت بزيارة الدكتور الرشيد زيارة شخصيَّة خاصة جامعة حائل، حيث التقى يوم السبت الماضي بمعالي مدير الجامعة والقيادات الأكاديمية والإداريَّة في الجامعة بعد أن أخذ جولة على مباني الكلِّيات واطِّلاع على طرف من أعمال وأنشطة كرسي الدكتور ناصر الرشيد لأمراض الكلى، الذي تحتضنه كلية الطب في الجامعة ويشرف على أعماله عميد الكلية أ.د.عودة الحازمي، وفي ثنايا حديث الرشيد الأكاديمي المتميِّز بحقٍّ، عرض لهذه الحقيقية (الكينونة والتملك في شخصيَّة المواطن السعودي)، مشيدًا بدور القيادة الحكيمة في توفير البيئة الحاضنة والمشجِّعة والداعمة لِكُلِّ مشروع محلي أو وطني أو عالمي يراد به المشاركة الحقيقية في دعم مسيرة إنسان هذا العصر.. داعيًا كل صاحب نفس حية وضمير يقظ ومهيب به الانتقال من حزب الملاك إلى عالم الكينونة الفسيح الذي به يسعد ويسعد ويرد شيء من الدّين العالق بذمته لهذا الوطن المعطاء الذي نتفأ ظلال أمنه وننعم بوافر خيره.
لقد رفض الرشيد ويرفض -وكما يعرف ذلك المقرَّبون منه- أسلوب الحياة التملكي الذي تكون علاقة صاحبه بالعالم حوله علاقة ملكية وحيازة، فردية وأنانية، تسلّط وسيطرة”.. فالأشخاص والأشياء بما في ذلك الذات التي هي أنا ملك لي “.. واختر بديلاً عن ذلك أسلوب الكينونية المرتبط وبِشَكلٍّ قوي بروابط حقيقية أصيلة بالعالم من حوله، والمتسم بالحيويَّة والفاعلية المجتمعية العالية، وهذا اللون من الكينونة كما يقول “دى ماريه” نقيض التملك تمامًا، كما أنه في ذات الوقت نقيض المظهر المتلون المخادع، إذ هو في حقيقته يشيء بالجوهر الصَّادق الحقيقي للشخص، وهذا كما يقول إريك فروم صاحب كتاب (الإنسان بين الجوهر والمظهر) ما تذهب إليه الدِّراسات في الأصل اللغوي للكلمة وتاريخها.. هذا الجانب الفلسفي في شخصيَّة معالي الدكتور يشدُّني كثيرًا وأطيل التأمُّل فيه كُلَّما سنحت لي فرصة الجلوس إليه والحديث معه والاستماع إلى شيء من منعطفات حياته وضربه في الأرض ومواقفه وسيرته مع النَّاس من حوله، والوصول إلى الكينونية الكاملة في الذات الإنسانيَّة ليس بالأمر السهل على النَّفْس البشرية -كما يظن البعْض- بل يحتاج إلى جهاد ومجاهدة طويلتين.. خاصة لِمَنْ عاش في بلاد الغرب الماديّ المعروف، وذاق حلاوة طعم الامتلاك للمال، ونعم في الثَّراء، وركب قارب الشهرة والجاه.
إن حياة الثَّراء والسَّفَر والترحال لم تنس الرشيد مراتع الطُّفولة ومواطن الصبا مع أنه فارقها بجسده منذ نصف قرن أو يزيد، وما أفاء الله عليه من نعيم لم يغره بالديْمُومَة وطول البقاء فهو كما يقول هو في معرض حديثه عن مسئولية أمثاله في دعم مشروعات الخير والوفاء لهذه الأرض الطيبة وإِنسانها (.. في النهاية سيتساوى صاحب المال والأرصدة مع غيره، إذ إنه سيدفن في حفرة مظلمة موحشة وحده بجوار ذلك المحتاج ولن تنفعه أملاك الدُّنْيَا كلّّها).
هذا هو الجوهر الصَّادق الحقيقي لمعالي الدكتور فضلاً عن التَّواضُع والكرم ودماثة الخلق وعلو الهمّة وقوة الإرادة، أما ارتباطه بالعالم من حوله والحيويَّة والفاعلية المجتمعية العالية في شخصه فأترك الحديث عنه لمقال الخميس ودمتم بخير وإلى لقاء والسَّلام.