قال أبو عبدالرحمن: هذه الكلمة غيضٌ من فيض من أعبائي الثقافية التي أودُّ أن تكون منهجاً لكل طالب علم؛ من أجل (تكوين شخصِيَّة عِلْمية مُعْتَدٍّ بها)، وكان العلماء السابقون الذين كان لهم تَخَصُّصٌ في عدد من العلوم يُشار إليهم في كُتب التراجم بأن لهم تخصُّصاً في كذا وكذا، وأن لهم مشاركة في عددٍ من العلوم.. والتخصُّصُ معروفٌ معناه،
والمشاركة ثقافة عامة، وعُنصرٌ مُساعد في تعميق التخصص.. وفي عصرنا هذا نحن بحاجة إلى المشاركة في كل العلوم التي نستطيع فهمها؛ لأن حاجز تخلُّفِ الفهمِ يُحْبط الطَّموح، وأَضْرِبُ المثال بالنسبة لي بعلم الجبر وعلم الفيزياء، والعلم بأسرار البثِّ في المذياع والتِّلفاز والفاكس؛ فمثل هذه المعارف أودُّ أن يفتح الله عليَّ بفهمها، ولكنَّ وسائلي العلمية عاجزة عن ذلك، ولا يعني هذا أن أتوانَى عما أستطيع المشاركةَ فيه، ولا أن آخذ ولو تصوُّراً ساذَجاً مما لا أقدر على فهمه؛ وذلك من كُتب المصطلحات والموسوعات التعليمية التي تُحَوِّل غوامض العلوم إلى ثقافة شعبية.. وإنما حكمتُ بأننا أحوج اليوم إلى المشاركة في كل العلوم؛ لأن عطاء الفكر البشري، والمهارة البشرية - بقدرة الله سبحانه وتعالى وتعليمه - اتَّسَعت اتِّساعاً لا مثيل له في كل أحقاب التاريخ؛ فكيف يعيش طالب العلم في غربة علمية فكرية عن مُحيطه وواقع عصره.. ولقد شحذ همتي من أجل معالجة هذه الأعباء كلمتان عن أمرين متناقضين قالهما الإمام الفذُّ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى الذي سبق عصره بأجيال لَمَّا ذَكر ما يغبنه ويغيظه.. الكلمة الأولى عن سماعه مَنْ يتحدَّثون فيما لا يُحسنونه؛ فهذا هو غيظ أهل الجهل، ولقد صدق الإمام؛ لأنه (كما قال أبو حامد الغزَّالي فيما أظنُّ، ولست على يقين): لو سَكَتَ مَن لا يَعْلَمُ لقلَّ الاختلاف.. ولقد بُليت بهذا الداء من قوم أكثروا الردَّ عليَّ فيما لا يحسنونه؛ فأهملتُ مناقشتهم؛ لأنني أخاف أن يَغْلِبوني كما غُلِب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
وتَشَبَّهُوا إن لم تكونوا مثلهمْ
إن التشَبُّهَ بالكرامِ فلاحُ
ولأن تسويد الطروس بمناقشة مَن ليس له علم بما كتب عنه؛ إذْ يَهْرِفُ بما لا يعرف: مَضْيَعة للوقت، وتعطيل لِـمَا هو أنفع.. ولأن إهمالَ ذلك خير دواء للجهول؛ كي يتعلَّم قبل أن يتكلَّم.. وَهَرْفُ الجَهولِ مأخوذ من مجاوزة الحدِّ في الثناء على الشيئ، ثم توسَّعُوا بذلك إلى معنى الهذيان؛ لأن مَن تجاوز الحدَّ سيهذي بلا ريب، ثم توسعوا بذلك إلى المدح بلا خِبْرة؛ ومن ههنا جاء (بما لا يعرف)؛ لأن مجاوزة الحد ادِّعاء كاذب، وهكذا كلام الإنسان فيما لا يعرف أَكْذَبُ ادِّعاءً.. والكلمة الثانية للإمام أبو محمد - الرفع على الحكاية، ومن أجل رِفْعة مقامه - إذا كان بين قوم يتكلمون فيما لا يُحْسِنُه هو.. ذكر ذلك في كتابه (مُداواة النفوس)، وهذا أمر عانيته إلى حدِّ أن الغبنَ والغيظ عندي قد يصل إلى ما يقرب من البكاء إذا كنتُ بين دكاترة دعوني أو دعوتهم، ثم أخذوا يتراطنون بالإنجليزية أو الفرنسية، ثم أداروا إليَّ عَرْض أكتافهم، وهذا الغبن إكراهٌ ينال في الرِّبْق (البَهَمَ أولاد الغَنم).. وإنني لأشفق على ابن عصري أن يناله غبن كثير إذا لم يشارك في علوم كثيرة؛ فإن سمع حديث ذوي اختصاص فيما شارك فيه كان أعظم حبوراً وسعادة بصمته ورهافة إصغائه؛ ليزداد فهمه، ولا يجوز له أن يدخل معهم في الحديث إلا مُسْتفهماً كما يُصْغي التلميذ الأمين، وهكذا كان يفعل الدكتور طه حسين (عفا الله عنه.. وهو مَن هو في سعة الثقافة)؛ فإنه يصغي مُتَعَلِّماً لا مُتكلماً إذا دُعي لاستفتاح جلسة المجمع اللغوي تكريماً له، ثم قام مثل الشيخ عبدالقادر المغربي رحمه الله تعالى يَبْجد من لغة العرب بجداً عبقرياً.. وربما قال كسول: دعوتُك هذه جُنونية، ودعوةٌ إلى ما لا سبيل إليه؛ لأن العمر قصير محدود، والمعارف لا حدَّ لها بالنسبة لعمر الفرد.. كما أنها دعوة إلى إلغاء التخصُّص!!.
قال أبو عبدالرحمن: كَلاّ.. إنني لا أدعو إلى محال؛ وإنما أدعو إلى ما يقدر عليه طالب العلم من التخصُّص، وإلى المشاركة في كل العلوم مشاركة يُفضي بعضها إلى ثقافة واسعة، ويفضي بعضها إلى تَصَوُّرٍ نافع وإن كان ساذَجاً، وهذا أمر سهل سمح جداً بعد أن أصبح حضورُ العلمِ أكثر مِن ذي قبل، وبعد أن سَهُلت سُبلُ تحصيله؛ وإنما أصبح سهلاً؛ لأنه دعوة إلى خلاف الممارسة المعهودة الآن عند المتخثِّرِين، وفي سياق كلامي سترون مَعالِم واضحة نيِّرة كمَعْلَمِ أن (حفظ المُتون بألفاظها) أكبرُ عَدُوٍّ لاستيعاب معاني العلم بحضور فكرٍ؛ فالذي سيصرف جزءاً كثيراً نفيساً من نشاطه في حفظ مثل (زادُ المستَقْنِع) قولوا لي بربكم: أيُّ مطلبٍ علمي سيحقِّقه ويُكوِّن به شخصيته العلمية الفكرية؟!.. إنه لن يكون إلا نسخةً من (زادُ المستقنع) وما أكثرها في الأسواق، وقد يكون نسخة مشوَّهة.. ثم إن مثل هذا المتن كالمجلَّى (بالجيم) للإمام ابن حزم، وكالزُّبد عند الشافعية: ليس من المتون التي أدعو إلى حفظ معانيها ودعك من حفظ ألفاظها؛ لأن ما يحفظه ليس على يقين بأنه القطعي أو الراجح من دين ربه؛ وإنما يتلَقَّى ويتلَقَّن ما اختاره فردٌ من البشر غير معصوم.. ولا يغلطن غالط فيقول: إن ما اختاره لك صاحب المُجلَّى - بالجيم - هو اجتهاد جمهور الظاهرية، وما اختاره لك زاد المستقنع هو اجتهاد جمهور الحنابلة !!.. كلَّا.. إن هذا الجمهور يجتهد في نطاق مذهب إمامه، ويجذب نصوص الشرع إلى ما يوافق مذهب إمامه، ويتكلَّف في ردَّ ما خالف مذهب إمامه، وما أكثر الأحاديث الواهية في كتب الفروع.. ثم إن هؤلاء يُمثِّلون رأي فرد واحد هو إمامهم؛ فليسوا هم الجمهور في تحقيق اختلاف العلماء، وإنما الجمهور هم الفقهاء من الصحابة والتابعين قبل التقليد، وهم الأئمة الذين لا يُقلِّدون غيرهم بعد التقليد كالأئمة الأربعة والليث وابن مهدي والسفيانيين.. إلى ابن جرير.. إلخ، وكل حنفي فهو أبو حنيفة لا غير، وكل حنبلي فهو أحمد ابن حنبل لا غير رضي الله عنهم ورحمهم جميعاً.. وأما كلام الله فحفظه للتعبُّد، وللإمامة بالمصلِّين، ولسهولة تلاوته في الطريق وفي الأوقات الصامتة.. ومَن عُوْقِب مثلي بإنسائه إياه بعد أن كان يَؤُم به المصلين في التراويح في مسجد أم سُلَيم حتى عسر عليه استذكاره: فعليه أن يستذكره حسب القدرة في جزء من أوقات النشاط، ولا يعجل، ويكرِّر ما حفظه وإن طالت الأيام حتى يكونفظه كحفظ سورة الفاتحة التي يتعذَّر نسيانها، ولا يكون لابس ثوب زور، فيحفظ آيات من السور المطوَّلة حفظاً جيداً، ويدَّخرها إلى أن يُفاجأ بطلب الجماعة للصلاة بالمسلمين جماعة؛ بل يترك الإمامة لغيره، أو يتلُو ما حفظه ولو كان من قِصار السور.. والمأثور في بعض القرى أن إماماً من العوام رحمة الله عليهم لا يتعدَّى في تلاوته جزء عمَّ؛ فلما غَصَّت القرية بالزوار إذا به يقرأ آيات مُؤثِّرة من طوال السور.. فقيل له: (يا فلان ما عهدناك تحفظ هذا؟)؛ فقال: (هذه عَابينها للأجناب)!!.. أي مُعدِّينها للزوّار.. والذي يقدم من قرية في سدير مثلاً إلى شقراء أو العكس فهو أجنبي في العُرف العامي، والقادم إلى الرياض - حرسها الله، وجميع بلاد المسلمين - من غير أهلها فكلهم (جْنُبَّا)!!.. وهذه أمور بيئية في عهود الأمية أحفل بالاستطراد لها؛ كي أَسَجِّلها فلا تضيع.. والذي لم يحفظ القرآن، أو عُوقِب بإنسائه فلا بد أن يتلوه في المصحفِ بتدبُّرٍ وحده، ويقرأ بين المخافتة والجهر؛ لِيُمْتِعَ نفسه بتحسين صوته، وليستجلب بركة السُّياح من الملائكة الكرام، فإنهم يَغْشَون بالرحمة والسكينة والخشية والاستغفار كلَّ صوتٍ خشوع يبالغ القارئ في تحسينه عند تلاوة كتاب الله بتدبُّرٍ.. ولا فهمَ ولا خشوع إلا بالتدبر، وعليه أن يتوقَّف عن التلاوة إذا ضعف صوته أو بُحَّ أو شرد ذهنه بحديث النفس أو الهمِّ بقضاء شيئ من حوائج الدنيا أو مسائل العلم، ولابد أن يُخَصِّص وقتاً أو وقتين للتلاوة وحده، وأما ما قبل وبعد أذان المغرب والفجر فأُفَضِّل كثرة الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير والتضرع بالدعاء..والأفضل في يوم الجمعة بعد تحية المسجد أن يقرأ عشر آيات من سورة الكهف، ويتعنَّى لحفظ آياتٍ منها بالترتيب حتى يُتْقِنَ حفظها كلها في عدد من الأسابيع؛ ليقرأ منها كلَّ جمعة، ثم يعود إلى قراءة ما وقف عليه من تلاوته حسب ترتيب المصحف.. وقبل دخول الإمام يغتنم الصلاة نافلة، ويطيل حسب نشاطه، ويتحرَّى كثرة الدعاء في السجود وآخر التشهد الأخير، ثم بعد النافلة يُكْثِر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء المأثور من جوامع الكلم؛ لأن ما بين الأذان والإقامة مَظَنَّة قبول الدعاء، وهو في يوم الجمعة آكد إلى صعود الإمام المنبر، ويحرص على الدعاء آخر ساعة من الجمعة وإن لم يدركها كلها، لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((وَافَى فيها) لا يقتضي ضرورة إدراكِهالِّها.. وفي الظهر والعصر والعشاء إن فضل له وقت بعد السنن الرواتب فالأفضل أن يستذكر حفظه ويُحْضِر المصحف عنده، ولكن بحمد الله الذي لا يُحْمد على قَسْوة الظروف سواه: فإن المساجد لن تترك لك فرصةً بعد النافلة؛ فهم على مبدإ قول العامة: (حامِي حامِي شِغْل الشامي)، يؤذنون ثم يُقيمون، والصلاة - وَسَّع الله عليهم - صلاةُ نَشِيطٍ لا تَعُوق !!.. والذي أعهده أن الله رحم عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى، وأما السَّماحة ههنا في المسجد فلا أدري ما حكمها.. كنتُ في الصغر أصلي مع والدي خلف الشيخ سليمان بن علي رحمهما الله تعالى في مسجد الحسيني بشقراء؛ فنقرأ جزءاً بعد أذان الفجر، وحزبا أو حزباً وربع حزب في الظهر والعشاء، وأقل من حزب في العصر.. ولا يحتجُّ محتجٌّ بأن التلاوة آنذاك كانت هَذّْاً.. فهذا صحيح، ولكن التلاوة عسيرة بطيئة تُشْبه التهجِّى.. المهم أيها الأحباب (وأنا أريد تنشيطكم بالاستطراد والمؤانسة) فَدَأْبُ مَن هذه حاله أن يحفظ معاني القرآن، ومعنى ذلك أن يعرف مواقع الأحكام والأخبار من السور؛ فيعرف أحكام الحج في السور، ويعرف أخبار إبراهيم الخليل عليه السلام من السور.. إلخ.. فإن كان طالب علم فليكن معه وريقة يسجل فيها ما استشكله من معنى أو إعراب، ثم لا يبحثه إلا في وقت نشاط.. وحِفْظ معاني القرآن لا يكون في تلاوة شهر أو عام، بل يكون تدريجياً في مراحل تكوين الشخصية العلمية، ومن هذه حاله لا ينسى وإن ظنَّ أنه قد نسي كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.. والمحاضِر والخطيب والواعظ أقدر على استحضار آيات الذكر الحكيم.. وحِفْظُ كلام الله منتهى البركة واللذة، ومن حُرِم بركة الحفظ أو عُوقِب بالإنساء، وكان دأبه ما أسلفته لكم عن حال التلاوة في المصحف: فقد يُعوِّضه الله بأن يكون أصح وأثبت علماً؛ لأنه لا يأخذ ببادئ الرأي، بل يستعين بالله ثم بِكُتُبِ مفردات القرآن، وما بُوِّب من كتب الأحكام أو الآداب أو الأخبار والأخلاق والعقائد، وما سَوَّده من مباحث عن آيات أشكلت عليه، ثم يُحقِّق العلم كتابة بالمراجعة والتفكير والرجوع إلى كتب العلوم المساعدة.. وهذا ليس عنده لكل سؤال جواب، ولكنه يزحف زحفاً مُقدَّساً؛ فبعد مرحلة الطلب يكون عنده في العام مُسَيْئلات حاضر جوابها بتحقيق مصحوبة ببراهينها، ومناقشة ما يورد عليها وهو غير وارد، ويكون في غاية الإتقان عند عرضها تصُّوراً وتقسيماً وتمثيلاً وتعريفاً؛ فلا يبلغ سنَّالكهولة حتى تكون عنده كُبريات المسائل ودقائقها بالصورة التي أسلفتها، ولا يطعن في الشيخوخة حتى يكون فارساً من الفرسان الأفذاذ، وضرغاماً يَحْمي غِيلَه، ولا يكون نسخة زادتْ في البلد أبداً، ولا يكون برهانه ألبتة: قال فلان، وقال علان.. والنشاط في العلم مُبارك، لأنه يجرُّ بعضه بعضاً، ويُزَكِّي بعضه بعضاً، وَيُذَكِّر بعضه ببعض.. ومن تعنَّى لعلوم الشريعة فلا يُقدِّم شيئاً على تحقيق النص ثبوتاً من كتب ذوي الاختصاص، وفي حين طلبه صحة الثبوت فلا يُقَدِّم على حضور الفكر من نظرية المعرفة شيئاً.. ثم يطلب صحة الدلالة فلا يقدم على جمع النصوص في المسألة شيئاً، ثم لا يُقَدِّم على حذق لغة العرب شيئاً، ثم لا يقدم على حضور الفكر من نظرية المعرفة أمراً رابعاً ألبتة، ويكون إمامه نصوص الشرع لا غير، وَيَرُدُّ ما يسع فيه الاختلاف (بالإثبات) إلى الرُّجحان، ويردُّ مالا يسع (بالنفي) فيه الاختلاف إلى القطعي المُحكم، ويؤسِّس أصوله من هذا الفهم للنصوص، ولا يؤسس قواعده وأصوله قبل ذلك الفهم المبارك.. وما يقال: إنه من مقاصد الشريعة، أو إنه تيسير، أو إنه إعمال للمعاني لا للألفاظ، أو إنه احتياط أو سدُّ ذريعة: فإنه يكتشفه ولا يُؤسِّسه.. ثم بعد ذلك يَفِد زائراً مُحترماً إلى كتب المذاهب في الفقه والعقائد وعلم الكلام.. إلخ وإمامه كما أسلفتُ نصوص الشرع؛ فتكون وفادته للنزهة يستدرك ما فاته، ويُصحِّح ما وهل فيه.. وهذا القدر يكفيه، فإن أراد التطوُّع بدحض الاستدلالات الباطلة، والأهواء المُرْدية، والشُّبَه المضلِّلةَ: فذلك هو الإمامة في الدين، ولكن ذلك صعب المنال من جهة استيعاب كل مسائل الديانة؛ لأن العلم واسع، والعمر قصير يعتوره مشاغل وعوارض صحية وكلال وما تحتاجه النفس من الترطيب؛ وإنما المهمُّ أن لا يُضَيِّع من وقت نشاطه شيئاً؛ فإن أرادَ مُرطِّباتٍ من الآداب والفنون (بعد كلالٍ) فلا تكن متعته لنفسه، بل ينقلها محرَّرة؛ ليستمتع بها الآخرون، وعليه أن يصون أصوله عن التناقض؛ فإن بدا له خللٌ فليعلن تراجعه عنه ويُحرر أصله من جديد.. وأما مَن لم يُعلن تراجعه؛ فتراه في موضع يقول: إخوة يوسف من رسل الله عليهم السلام، وهم مذنبون عفا الله عنهم.. ثم يقول في موضع آخر: ليسوا أنبياء.. ولم ينسخ أحد القولين بالتراجع.. أو ينكر المجاز بعنف، ثم يقع فيه بسهو أو احتياج: فَهذا أَبْقِ له حرمة الديانة والعلم، وَأَغْدِقْ عليه من الترحُّم والستغفار، وشمِّر عن ساعدك، ولا تكن رِعديداً تُكَلَةً إمَّعة، ولا تحقر سَهَرَ عُيَيْنَاتك إن كنت غير بليد، وقل: هم رجال ونحن رجال وأنا أبو عبدالرحمن!!.. قل ذلك ولو كان وديدُك طروسَهُ كالإمام ابن حزم رحمني الله وإياهم وجميع إخواني المسلمين، كما أرجو هداية الضالين أو المُغَرَّر بهم.
قال أبو عبدالرحمن: وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فشأنه ما أسلفته لكم عن نصوص الشرع، وحِفْظ صحيحه نضارةٌ في الوجه بلا ريب؛ فإذا لم يتيسر له حفظه فليكن على ذكرٍ من معانيه إلا ما تمسُّ إليه حاجة المسلم حتماً كالأدعية الصحيحة الموظَّفة، وما هو مطلق من الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير، وأدعية الركوع والسجود.. إلخ؛ فهذا يلزم حفظه، وإلى لقاء قريب إن شاء الله مع هذه الأعباء، والله المستعان.
- عفا الله عنه -