من رأى مشهد الطفل السعودي يعقوب حينما سمع صوت أمه التركية في برنامج «الثامنة» لا بد أن يعتصر قلبه الألم، ويشعر بالغضب تجاه عبث وزارة الصحة، وتدميرها الصحة النفسية لطفلين بريئين، دون أن تأخذها الشفقة والإحساس بالمسؤولية تجاه هذه الواقعة، فلم تبادر بتأمين المعالجة النفسية والمتابعة الصحية لهذين الطفلين، بل تركتهما كالعادة، وبإهمال غير مستغرب، لقدرهما مع أبوين عاجزين، الأب التركي الذي يحاول ترميم نفسية ابنه علي، ويتواصل بحزن مع السعودي يعقوب الذي قام باحتضانه وتربيته لخمس سنوات، هي أهم سنوات تشكيل شخصية الإنسان، وما ينعكس تماماً على مستقبل حياته، ونجاحه أو فشله، في تعامله مع الآخرين.
بكل أسف، قام هذان الأبوان بجهدهما المتواضع، تخدمهما ثقافتهما البسيطة، في محاولة ترميم الانكسارات النفسية لهذين الطفلين، ولم تبادر الوزارة بمتابعة حالتهما، بل لم تزلزل دمعة يعقوب وعجزه عن الحديث أمام صوت أمه التركية، أي مبادرة من هذه القلوب الصلبة المتحجرة!.
في المقابل شاهدناكيف بكى داود بحسرة، لا أعني الزميل داود الشريان، رغم أن الدمعة كادت أن تطفر من عينه، لكنني أقصد داود أوغلو، وزير الخارجية التركية، وهو مع زوجته يقفان أمام جثمان فتاة استشهدت في مستشفى الشفاء بغزة، فمن بكى هنا وزير خارجية، لا وزير صحة، وبكى على فتاة من بلد آخر، ومن عرق آخر، بينما في الحالة الأولى لن تجد من يبكي ويتحسر على انهيار يعقوب نفسياً، لن تجد من يبادر بفعل ما، من وزارة الصحة، على ابن وطن، يحمل نفس الجنسية والعرق والدين، وذنبه أننا تجاهلناه، وأخطأنا عليه مرتين، الأولى حينما نسبناه إلى رجل تركي عطوف، وهو إنسان عادي هذه المرة، لا وزير خارجية، والثانية حينما نسينا هذه الحادثة، وسلمنا كل واحد من الرجلين السعودي والتركي طفله الحقيقي، كما لو كنا نسلمهما دروعاً خشبية في حفلة تكريم، وانتهى الأمر.
أعرف أن أغلب القراء سيعلق بأن وزارة الصحة لم تقم بدورها المنتظر من توفير العلاج والسرير لكل مواطن، فمعظم المواطنين لا يجدون سريراً شاغراً في أقسام التنويم، ولا في غرف العناية المركزة، فكيف تنتظر منهم المبادرة في العلاج النفسي لطفل واحد؟ هذا صحيح، ولكن ليس هناك واجب يلغي الواجب الآخر، فما ستقوم به الوزارة من إنشاء المستشفيات، وتوفير الكوادر الطبية والفنية، وتحدياتها أمام معدل النمو العالي للسكان لا يعني إهمالها وتجاهلها للخطأ الجسيم الذي ارتكبته بحق هذين الطفلين، ولا يعني أن طاقاتها كلها مسخرة لحلم مواطن ينتظر في ممرات المستشفيات فرصة سرير عابر.
وقد يقول قائل ماذا تعني دمعة داود أوغلو؟ وماذا ستقدم لضحايا غزة، لأجيب بأنها دمعة إنسانية حقيقية، جاءت ساخنة وسخيّة، وهي بالضرورة تعني المشاركة بالألم أولاً، ومن ثم قد يأتي القرار بالفعل والمبادرة، أما التجاهل والصمت المطبق تجاه كثير من قضايا الموت والمرض والتقصير في أداء الجهات لمهامها، فهو ما يجعلنا لا نتفاءل بأي مبادرة منتظرة، فحرقة الموقف ومرارته من مسؤول يشعر بالإنسان والوطن، ستقود حتماً إلى موقف وفعل، وهو ما ننتظر حدوثه في معظم قضايانا المهملة.