لعله من المناسب أن نبدأ بهذه القصة الرمزية، وهي تقول أن لو وضعت ضفدعاً في إناء به ماء شديد الحرارة لقفز من فوره من الماء، ولكن لو وضعته في الاناء نفسها والماء بارد ثمّ بدأت بالتسخين قليلاً قليلاً لما تحرك الضفدع ولاستمر باقياً في مكانه حتى لو اقتربت حرارة الماء من درجات عالية، وهذه القصة الرمزية تمثل حقيقة التغيير في أي مجتمع من المجتمعات، فالتغيير المفاجئ يُقابل بمقاومة قوية جدا كما هو الحال في قفزة الضفدع، والتغيير الهادئ البطيء يمر على المجتمعات دونما مقاومة، بل ورضا وهذا الأمر مشروط بكون التغيير المراد لا يُصادم منطلقات المجتمع المراد تغييره أو ثوابته، وفي هذا المقال سيكون هناك محاولة لفهم عملية التغيير في المجتمع السعودي ومن يقوم بها، ومما يؤسف له في الساحة الثقافية السعودية أنه لا يوجد دراسات اجتماعية معمقة وتحليلية عن كثير من التحولات الاجتماعية والثقافية عن المجتمع السعودي، فمما يثير العجب في تجربتنا السعودية ندرة الرصد في كل شيء، وتأريخ التحولات وقراءتها بقدر من الرصانة والموضوعية، ولهذا تعاني ذاكراتنا من الثقوب الكبيرة التي تجعلنا نفقد القدرة على تمييز الأمور بين ما هو مقبول، وما هو غير ذلك.
يحسن بنا أن نلج في مادة المقال أن نحدد المصطلح وهو (التغيّر الاجتماعي)، وتوضيح الفرق بينه وبين مصطلح (التغيير)، فالتغيّر هو: التحول والانتقال من حالة إلى حالة، أما لدى المختصين في علم الاجتماع فتقترن هذه الكلمة غالبا مع كلمة (الاجتماعي) أو قد تُقرن مع كلمة (الثقافي) لتكوّن مصطلحا واحدا هو: (التغيّر الاجتماعي) أو تكون مع كلمة الثقافي لتكون مصطلحا جديدا مختلفا هو: (التغيّر الثقافي)، والاختلاف كبير بينهما فالتغيّر الثقافي أشمل من التغيّر الاجتماعي، والمقصود هنا أن (التغيّر الاجتماعي) (Social change) وهو: الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، أو هو كل تحول يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو وظائفه خلال فترة زمنية معينة.
وغالباً ما يكون الدافع وراء التغيّر هو أن الواقع الموجود قد لا يعبر عن إرادة الأفراد المكونين للمجتمع، ومن هنا فإنه حيثما وجدت فجوة بين ما هو قائم وما ينبغي أن يكون أو ما يريده المجتمع أو ما تريده القيادة السياسية، كما قد يحدث في بعض المجتمعات التي تتدخل فيها الحكومات لإحداث تغيير ما في نظام اجتماعي أو ثقافي فإن التغيّر يحدث غالباً.
وهناك فرق بين مصطلحي (التغيّر) و(التغيير)، فإنه كلما تدخل الإنسان في إحداث التغيّر أطلق على هذه العملية تغييراً، وغالباً ما يكون هذا التغيّر مّخططا له ومقصوداً لذاته. ويكون قائماً على تخطيط مسبق قبل التنفيذ للوصول إلى أهداف محددة ومعروفة، ويكون نتيجة لجهود الإنسان الإرادية وعادة ما تقوم به الدولة أو أي جهة تابعة لها، وخير مثال على ذلك: افتتاح مدارس تعليم البنين النظامية في عهد الملك عبد العزيز، وإنشاء الهجر وتوطين البدو في وقته كذلك، ومن ذلك أيضاً افتتاح مدارس البنات في عهد الملك سعود،. أما (التغيّر الاجتماعي) فإنه يكون تلقائيا وعشوائيا وليس مقصوداً نتيجة تأثير خدمات وبرامج أحدثها الإنسان في واقعه الاجتماعي، ومثال ذلك ما حدث في العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع والأسرة من تباعد جراء التوسع العمراني في المدن، وبسبب موجات التحضر التي مرّ بها المجتمع السعودي.
وقد يحدث التغيّر في المجتمع بشكل تدريجي وغير ملاحظ، ولكنه في بعض الأحايين قد يكون مفاجئاً، وحاداً، وقد يكون التغيّر نتيجة للتخطيط المسبق، وقد يكون دونما تعمد، كما ذُكر آنفا. وبكل حال فكل مجتمع يتغيّر سواء لاحظ ذلك أفراد المجتمع أم لم ينتبهوا له، فالتغيّر الاجتماعي سنة كونية ماضية في البشر والمجتمعات والأمم، وهي ما يعبر عنها القرآن الكريم (بالمداولة) أو (التدافع) ومن ذلك قول الحق عز وجل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (سورة البقرة، الآية251). فهذا قانون اجتماعي مبني على الصراع، إذ من خلال حركة الوجود والمجتمع يشتد الصراع، وتتصادم المفاهيم والقيم، ويكون البقاء وورثة الأرض للأصلح. كما يقول تعالى في محكم كتابه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (سورة آل عمران، الآية140).
ومن أبرز من تناول ظاهرة (التغيّر الاجتماعي) من العلماء المسلمين، عالم الاجتماع (ابن خلدون) في مقدمته، حيث سبق فيها كل من كتب عن (التغيّر الاجتماعي) ويؤكد على أنه سنة كونية وإن كان يسميه باسم آخر خلاف عبارة (التغيّر الاجتماعي)، حيث أطلق عليه عبارة (عدم دوام الحال) في أكثر من موضع في مقدمته الشهيرة سواء كان ذلك في واقع الأشخاص أم في واقع الدول، والأقطار، والمجتمعات.
ومما تحسن الإشارة إليه أن (التغيّر) قد يحدث بشكل فجائي وسريع و هذا غالباً ما يكون نتيجة لأحداث سياسية مفاجئة، أو كوارث طبيعية كبيرة وشاملة، أو حروب على مساحات واسعة، ومن ذلك التغيرات التي حدثت في المجتمعات في دول الخليج العربي أثناء حرب الخليج الأولى والتداعيات العسكرية والسياسية في المنطقة التي تلتها. وقد يحدث (التغيّر) بصورة تدريجية بطيئة لدرجة أن الأفراد الذين يعيشون في المجتمع لا يلاحظون متى بدأ هذا (التغيّر الاجتماعي)، وقد لا ينتبه له إلا القليل، ومن ذلك على سبيل المثال (التغيّر) الذي حدث في بنية الأسرة نتيجة لتطورات اقتصادية وعمرانية في شكل المدينة العمراني. ويمر (التغيّر الاجتماعي) بعدد من المراحل، سواء كان ذلك التغيير بطيئا أم سريعا، ويمكن رصدها على نحو تقريبي، وإلا فهي متداخلة بشكل تبدو وكأنها مرحلة واحدة، وهذه المراحل في النقاط الآتية:
- مرحلة التحدي: وتعد هي نقطة البداية في (التغيّر الاجتماعي)، إذ إن أي مجتمع ينظر إلى عملية (التغيّر) في أي مظهر من مظاهر الحياة وكأنها عملية تحد للقيم والعرف والعادات المتبعة، فتُقابل بالرضى أو الرفض والمعارضة، وكلما كان (التغيّر) في صفة من الصفات الاجتماعية المتأصلة في طبيعة المجتمع أو التي تطاول عليها الزمن، كانت المعارضة أقوى وأشد، وكلما ابتعد (التغيّر) عن اللب الثقافي للأمة أو المجتمع تناقصت المعارضة له.
- مرحلة الانتقال: وفي هذه المرحلة من مراحل (التغيّر الاجتماعي) تظهر فئة من المجتمع يتبنون الأفكار الجديدة أو يطالبون بها، ويدافعون عنها وفئة أخرى معارضة، وهنا ينشأ جدل ونقاش مجتمعي ويحاول كل طرف إيجاد نقاط ضعف لدى الآخر، ويمكن اعتبار هذه المرحلة على أنها من أخطر المراحل في (التغيّر الاجتماعي) لما تحدثه من بلبلة لدى الرأي العام، بسبب الطروحات المتناقضة بشكل حديّ ومتعاكسة بشكل مخالف لطرح الطرف الآخر تماماًَ.
- مرحلة التحويل: وفي هذه المرحلة تقل مقاومة الفئة المعارضة (للتغيّر الاجتماعي) وتصبح القوة للأفكار الجديدة سواء عن قناعة الفئة المعارضة أو لعدم جدوى المعارضة، أو لتدخل قوى أخرى في العملية التغييرية، مثل تدخل الحكومة لصالح الفئة المطالبة بالتغيير، ويبدأ هنا تحول بعض المعارضين إلى مؤيدين أو محايدين، وهذا بطبيعة الحال لمن كان من غوغاء الناس الذي انقاد لمعارضة (التغيّر الاجتماعي) دونما رؤية واضحة.
- مرحلة التطبيق: وهي المرحلة التي تصبح فيها الأفكار مطبقة في المجتمع ككل، أو الغالبية العظمى منه، وتصبح مستقرة، ولا تعود مجالا للنقاش أو الجدل، ويصبح الحديث فيها من قصص التاريخ الاجتماعي في المجتمع.
وبطبيعة الحال لا يمكن وضع نقاط فاصلة بين مرحلة أخرى فكلها متداخلة، وقد تندمج مرحلة بأخرى، وكل مرحلة لها فترة زمنية قد تطول وقد تقصر، بحسب معضدات كل مرحلة للتجاوز إلى المرحلة التي تليها.
أما مصادر (التغيّر الاجتماعي) فهي كثيرة ومتداخلة ومتعددة، ومن أهمها البيئة الجغرافية، والأفكار، والتجديد الثقافي الذي يأخذ أشكالاً متعددة مثل الاكتشاف والاختراع والفعل الإنساني، بمعنى أن الأفراد والجماعات والهيئات (مثل الحكومة) تستطيع أن تؤثر تأثيراً كبيراً في عملية التغيّر الاجتماعي، وتدفع به إلى الأمام قدما من خلال وسائل عدة سياسية واقتصادية واجتماعية وتنظيمية في الكيان الإداري للدولة.
ومما تحسُن الإشارة إليه هو وجود عدد من العوائق التي تقف أحيانا في وجه (التغيّر الاجتماعي)، أو (التغيير الاجتماعي)، وهي عوائق يمكن تطبيقها في أي زمان، وفي أي مكان، ومن هذه العوائق التي يذكرها العزلة الاجتماعية التي تُصاب بها بعض المجتمعات إما طواعية، أو إجبارية، ذلك أن التغيّر يتطلب انفتاحاً على مجتمعات أخرى واحتكاكا معها، ومن هنا فقد يكون الموقع الجغرافي لمجتمع ما حجر عثرة في طريق التغير لهذه المجتمعات نتيجة إحاطتها بصحراء أو مناطق وعرة يصعب الوصول إليها ويعيق عملية الاتصال بالمجتمعات الأخرى. كما أن انخفاض المستوى الثقافي والعلمي للمجتمعات قد يكون أحد العوائق، إضافة إلى أن نقص الموارد الاقتصادية والثروات الطبيعية وعدم توفر القدرات المادية غالبا ما يكون عائقا في طريق تغير وتطور المجتمعات، ولعل أبرز العوائق هو مقاومة التجديد والرغبة في المحافظة على كل ما هو قديم خوفاً من الآثار المترتبة على هذا التغير فيكون هناك مواجهة بين ثقافة المجتمع أو ما يمكن أن نسميه (المعايير الاجتماعية) وبين سياسة التغيّر، مثل الصعوبات والاعتراضات التي واجهت تعليم المرأة في بدايتها في المجتمع السعودي.
إن تناول موضوع (التغيير الاجتماعي) أو ممارسته بمعزل عن خصوصية المجتمع الذي يراد له التغيير يُعد كارثة اجتماعية على المدى البعيد تنخر في أس المجتمع وعوامل بقائه في المستقبل، فالمجتمع السعودي على سبيل المثال يمتاز بعدد من الخصائص تجعله يختلف عن غيره من المجتمعات ولا يعني هذا أنه تفضله على المجتمعات الأخرى فالأمر لا يعدو أن يجعله مختلفا عن غيره فقط وليس أفضل، وهي الخصوصية التي ينبغي أن تكون دافعة إلى المزيد من التطوير في الحياة، فهي خصوصية دافعة إلى السبق في مجالات الحياة الاجتماعية والعلمية فلم يكن الدين ليقف في وجه أي تطوير اجتماعي وعلمي وثقافي وحضاري مادام هذا التطوير قائما على قواعد راسخة في الدين الحنيف وذلك بإيجاد البيئات المناسبة للانطلاق إلى هذا التطور الاجتماعي، دون اللجوء بالضرورة إلى أنماط موجودة في بيئات أخرى ظنا من بعضهم أنها تصلح للبيئة المحلية وهي جوانب يجب أن تُراعى حين ممارسة هذا الفعل الاجتماعي وهو (التغيير الاجتماعي).
إن مما تحسن الإشارة إليه أن هناك عوامل اجتماعية كثيرة يعدُّها علماء الاجتماع حقائق مشتركة تعين على فهم أي مجتمع وبخاصة لمعرفة نظمه وتقاليده وطباعه، ومن أبرز هذه الحقائق (الدين) الذي يعتنقه أفراد المجتمع، فهو الذي يجعل أفراد المجتمع ينتظمون في مجموعة مترابطة، ثم اللغة على أساس أنها وسيلة مهمة لوضع قواعد مشتركة للتفاهم بين أفراد المجتمع وصياغة ثقافته في منظومة واحدة، و مما يمتاز به المجتمع السعودي عقيدته الإسلامية، وهي دين جميع أفراد الشعب، ثمّ لغته العربية الموحدة. ولقد أثر هذان العاملان بشكل بيّن وواضح في جميع مناحي حياة المجتمع، فالمجتمع السعودي يرى بأن بلدهم هي معقل الإسلام والمسلمين، وعاصمته الخالدة، وقلب العالم الإسلامي كمركز القلب في الجسم الإنساني، ورأس مال المسلمين والخط الأخير في الدفاع عن الوجود الإسلامي، وقد يصل الأمر إلى أكبر من ذلك وهو الرغبة في بقاء هذا السمت المحافظ للمجتمع السعودي، لدرجة أن هناك من يرى وفق رأي الدكتور عبد الله الغذامي أن المجتمع السعودي أشد المجتمعات العربية محافظة فهو مجتمع اتفق لا على محافظته فحسب، ولكن على الرغبة في أن يظل كذلك، ولو عُمل استفتاء عربي لوجد إجماعا عند كل العرب والمسلمين في أن يظل المجتمع السعودي محافظا، وكأنما ذلك مصدر تطمين تاريخي وحضاري لا يمكن التفريط فيه، فهناك سمت معين ومحدد للمجتمع السعودي من حيث صبغته الإسلامية سواء في قاعدته الجماهيرية، أو في الإرث المكين لسلطته الحاكمة.
من خلال النظرة السريعة لجوانب المجتمع السعودي بشكل عام، يمكن إيراد أبرز خصائصه فهو مجتمع عقيدته الإسلام، وهو دين جميع أفراد الشعب، فتُعدُ المملكة من الدول النادرة في العالم التي يعتنق جميع سكانها دينا واحداً وهو الإسلام بنسبة (100%) وهذه الوحدة الدينية هي نقطة القوة الكبرى في بناء الوطن، كما أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة والرسمية في المملكة كما أنها الدولة التي لم تخضع في تاريخها للاستعمار الأجنبي الذي قد يفرض لغته على البلاد التي يستعمرها. ولقد أثر هذان العاملان - الدين الواحد واللغة الواحدة - بشكل بيّن وواضح في جميع مناحي حياة المجتمع وانصباغ المجتمع بصفة التدين العام، فالدين الإسلامي ساهم في صهر كافة شرائحه في بوتقة واحدة، كما ساعد على القبول الجماعي بدرجة كبيرة بين أفراد المجتمع لمرئيات وقرارات السلطة نحو قضايا التنمية، فثقافة المجتمع ذات الطابع الديني والإسلامي تنعكس بشكل واضح على تفاعلات الناس في حياتهم اليومية، بل وفي ثقافتهم المحكية والمتداولة بينهم بشكل يومي الأمر الذي يؤكد على أن العمليات الصغرى للحياة اليومية في المجتمع السعودي قد تحددت وتشكلت في ضوء البناء الديني للمجتمع، ويمكن ملاحظة ذلك حتى على أجهزة الدولة ووزارتها حيث تمت هيكلتها بصورة تعكس أسس المجتمع وثوابته، فالأنظمة المعمول بها في المملكة حاليا أنظمة وجدت تمشيا مع ما تتطلبه الشريعة الإسلامية وبشكل لا تتعارض معها.
ومن جانب آخر فإن عين الراصد الاجتماعي لاتخطئ وجود صور من مظاهر الانغلاق لدى البعض من المجتمع السعودي سواء على نفسه أم على أسرته، وممارسة نوع من الانكفاء على الذات، وهذا ما يشير إليه بعض الدارسين للمجتمع السعودي، وإن كانت ليست صفة عامة إذ وجد من أفراد المجتمع من رحل إلى بعض دول الخليج وبلاد الهند وبلاد الشام، وبكل حال فإن ممارسة نوع من الانغلاق تُعد صفة لا تنفك من طبع إنسان البادية وتكاد تكون ملازمة له إلى حد كبير، فطبيعة العيش في الصحراء يولد مثل هذه الصفة، لذا نجد هناك من يصف المجتمع السعودي في مجال العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وبعضهم والأسر وبعضها أنه تغلب عليه النزعة الفردية والميل إلى الاستقلال سواء في ناحية المعيشة أم في الناحية الاقتصادية.
وبطبيعة الحال فهذه الصفة بدأت بالتخفف من أفراد المجتمع السعودي وعامته، إن لم تكن زالت بالفعل فعملية السفر والبعثات الخارجية خاصة أدت إلى تغيير كثير من المفاهيم وتوسيع المدارك، وتفتيح الذهن إلى مسارب التسامح وقبول ما لم يكن يقبله أو يتسامح معه وأصبح يألف بعض ما كان ينفر منه رؤية أو قرباً أو ممارسة، وأصبحت المناعة متأرجحة تجاه بعض الأمور بين القبول بقوة أو مجرد التسامح. وهذا بطبيعة الحال ما كان مستندا في مواقفه على العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة ولا يتصور هذا في الأمور الشرعية، وهذه الصورة الانغلاقية ليست بدعا في المجتمع السعودي، بل هي حالة متكررة في مناطق أخرى من العالم، معروفة ومرصودة لدى المختصين.
ومن هنا فإن بعض الاعتراضات التي يمكن رؤيتها ورصدها لبعض عمليات التغيير الاجتماعي وتحديداً ما لا يمس عقيدة المجتمع وثوابته يمكن النظر إليها باعتبارها مظهراً من مظاهر المقاومة الثقافية في أي مجتمع من المجتمعات حينما يمر بحال تغير مفاجئة أو قوية تمس بعض الأمور الاجتماعية الصرفة، فمثل هذه المقاومة لم تكن أبداً أداة رفض للتغير، بل كانت آلية ترشيح وتقنين مارسها المجتمع وفرض بها قيمه على الرغم من ضغوط الجديد والحديث. بل يمكن اعتبار مثل هذه المقاومة أو ما يسمى الممانعة المجتمعية الوسيلة الأضمن والأقوى لحفظ الهيئة الاجتماعية من أن تضمحل بعامل استجلاب قيم لم تصنعها الأمة ولم تُنتجها بطريق التفاعل بين المجتمع وبين الأصول المكونة له فالمحافظة على القيم ليس من مسؤولية الدولة وحدها وليس مسؤولية العلماء وحدهم.
ومن هنا يمكن النظر إلى تلك الاعتراضات التي تمَّت حين افتتحت مدارس تعليم البنات على سبيل المثال أنها كانت وسيلة غير مباشرة لضبط هذا الوافد الجديد ليتواءم مع طبيعة المجتمع وثقافته، وتتفق مع رغبة القوى المجتمعية والقيادات الشرعية التي كانت تمثل ثقلا في بنية المجتمع والدولة بشكل عام. فضلاً عن كون هذا الموقف المقاوم للتغيّر كان مستمداً من خصوصية المجتمع السعودي التي سبقت الإشارة إليها، بالإضافة إلى طريقة تعامل الدولة مع تلك الاعتراضات والمعترضين في حينه. فمثل هذه الحادثة التي شكلت بعض المنعطفات في مسيرة المجتمع نحو التكامل والاستقرار لتؤكد أو تبرهن ما يؤكد عليه علماء الاجتماع الديني المتمثل في أن الدين يصبح أمراً أكثر أهمية ومصداقية في أوقات الضغوط والأزمات والصراعات؛ إذ يشكل محدداً أساساً في إعادة الأمور إلى مجاريها.
فعادة ما يكون أمام الدولة في أي عملية تغيير اجتماعي آنذاك أربعة جوانب من التحديات التي لا بد أن تتعامل في ضوئها في حالة البدء بعملية (التغيير الاجتماعي) وهي العوامل: السياسية، والدولية من جانب، والتنموية، والمجتمعية، من جانب آخر. ومن ذلك رغبة الدولة في توفير بعض الحقوق الأساسية لجميع أفراد المجتمع. بالإضافة إلى الحرص على شمول التنمية الاجتماعية جميع قطاعات المجتمع ذكوراً وإناثاً. ويرافق ذلك التوجه نحو مسايرة الواقع العالمي، والسير مع روح العصر، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء. وهذه المقدمات الثلاث يصاحبها عادة وجود أصوات معارضة في المجتمع، وقد يختلط فيها الجانب الاجتماعي بالجانب الشرعي. وصعوبة هذا التحدي الأخير تكمن في كونه في بعض الاحايين يأخذ بعداً شرعياً وشكلاً دينياً في بعض طروحاته، وبعض وسائله كذلك.
ومن خلال الاستقراء يمكن القول إن الدولة استطاعت التعامل مع هذه التحديات بدرجة مقبولة فقد استطاعت تجاوز الكثير من المواقف التي تستلزم إحداث عملية تغيير اجتماعي بالرغم من الموقف المحرج وهو تنافر القيم الاجتماعية التقليدية، وتجاذبها من ناحية، والتغيير الذي ترغب القيام به من ناحية أخرى، ولاشك أن منهج الحكومة المتوازن بين الميراث والتحديث قد أسهم بشكل كبير في تجاوز العديد من الازمات المجتمعية بشكل فعال يحقق ما هو مطلوب من واجبات على الدولة تجاه مواطنيها، ويراعي إلى حد كبير تلافي الصدمات الاجتماعية التي قد يواجهها المجتمع في أثناء حركة التغير التي يمرّ بها المجتمع السعودي، فقد استطاعت الدولة الاستفادة من الإمكانات المجتمعية، وبخاصة القيادات الشرعية المحلية في تجاوز تلك اللازمات أو التخفيف منها ومن ردود الأفعال فيها، فلم تتجاوز أصوات معارضة هنا وهناك مدى بعيدا، ولكن سرعان ما خبت حينما كان التعامل معها بشكل مسؤول وعقلاني تفهمت فيه القيادة السياسية واقع المعارضة التي تقوم بها الشعوب المحافظة في عمليات التغير الاجتماعي التي تمر بها المجتمعات عامة وليس المجتمع السعودي بنشاز عن هذه الصفة الاجتماعية، وإن كان قد يزيد من مستوى محافظته الظروف الجغرافية التي أدت إلى انعزال بعض مناطقه عن المؤثرات الخارجية بشكل كبير.
إن من الأهمية بمكان في أي عملية تغيير اجتماعي الأخذ بعين الاعتبار أن الدين الإسلامي في المجتمع السعودي كان ولا يزال عاملاً مهماً ليس في فهم مظاهر الاستقرار والتوازن والتنمية والتكامل فحسب، بل في استيعاب مظاهر التغير والصراع، ومن ذلك تتبين مدى أهميته في كونه بناء وإطارا مرجعياً وأيديولوجيا ليس فقط في مسألة تأسيس المجتمع وتماسكه، بل أيضاً في إضفاء الشرعية على الكثير من الأمور التنظيمية، والاجتماعية، والتنموية المختلفة في الواقع الاجتماعي، ومن هنا فإن أي تغيير يُراد للمجتمع السعودي لا يراعي هذه الخاصية تحديدا في طبيعة المجتمع وأفراده، فإنه غالبا ما ينتهي به إلى الفشل طال الزمن أم قصر، فضلاً عن إحداث هزات اجتماعية تورث خلافات وشقاقات في لُحمة المجتمع يظهر أثرها على المدى البعيد، وهذا يؤكد ضرورة تدخل الدولة وصدورها عن رأي شرعي جماعي، وذلك بما تملكه من عقلانية في عموم توجهاتها، وحكمة في التصرف إضافة إلى وضوح التصور لديها لثوابت البلاد التي قامت عليها الدولة.
إن ضرورة تدخل الدولة وصدورها عن رأي شرعي جماعي في إدارة دفة (التغيير الاجتماعي) الواعي في المجتمع، وعدم تركه عرضة لمجرد الكتابات الصحفية، أو المطالبات الفردية التي لا تراعي المصلحة العامة، أو مآلات الأمور وما تنتهي إليه يحقق مصالح شرعية تتصف ببعد النظر ومراعاة المصالح العامة البعيدة والقريبة، وسعة الأفق، وهي من الأمور التي قد يغيب عن الرأي الفردي، أو لدى بعض الكُتاب كما هو مشاهد ومقروء حين تناولهم لعدد من القضايا الكبرى التي تمس عموم الناس وليس آحادهم، كما أن هذه النظرة المتزنة من مؤسسات الدولة بعمومها غالبا ما تتجاوز عقلية الجماهير التي هي أقرب لغياب التفكير العاقل المتزن لما يتصف به من تغييب للرأي المتحرر من قادة الجماعة دونما تبصر أو تأمل حكيم.
إن خطورة غياب التدخل الواعي والحكيم للدولة في قيادة دفة (التغييّر الاجتماعي) في المجتمع، وتركه للغوغائية المنظمة كما في بعض الكتابات، أو الغوغائية الفوضوية كما قد يحدث في المظاهرات الجماهيرية.. إن خطورة الغياب تتمثل في حدوث صراع مجتمعي وإحداث انشقاقات في بنية المجتمع جراء التصرفات غير المسؤولة من الطرفين وضياع الرأي الحكيم، والموقف المعتدل الوسطي في معمعة الصراع الأعمى، مما يورث إجراءات تُتخذ بتأثير من أحد الطرفين، ويكون أثرها متعديا زماناً ومكاناً لمدى بعيد وطويل. والله الموفق والهادي لسواء السبيل
****
المراجع
1- قادة الرأي في المجتمع السعودي: دراسة وصفية استقرائية، مُحَمَّد البشر.
2- السعودية سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية، عبد العزيز الخضر.
3- الثوابت والمتغيرات في المجتمع السعودي، عبد الله بن حسين الخليفة.
4) علماء السعودية والممانعة الذرائعية، مُحَمَّد بن إبراهيم السعيدي.
5- المقاومة الثقافية في المجتمع السعودي المعاصر: دراسة للبيئة السكانية، مشاري بن عبد الله النعيم.
6- السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة، علي بن إبراهيم النملة.
7- النخب السعودية: دراسة في التحوّلات والإخفاقات، مُحَمَّد بن صنيتان.
ansadhan@gmail.comالوكيل المساعد - وزارة الشؤون الاجتماعية