إنما يدعو المرؤ إلى التساؤل والتعجب بشكل كبير ما يلمسه في الدول العربية والإسلامية من غياب نسبي لثقافة التطوع بين أفراد المجتمع بالمقارنة مع دول العالم الأخرى، ويأتي مثار هذا التعجب والاستغراب من أن تلك الدول ترتكز في غالب الأمر على دوافع إنسانية فحسب، وهي تمارس العمل التطوعي والخيري عموماً، بينما الذي يدفعنا إلى فعل الخير في بلادنا الإسلامية، بالإضافة إلى دوافعنا الإسامية قيمنا الإسلامية وإرث حضاري يحفل بتمجيد هذه القيم وأصحابها، وقبل أن نستطرد في أسباب هذا الغياب لثقافة الطوع في الدول العربية والإسلامية، مع ما تحفل به التعاليم الدينية الإسلامية من حض على التطوع وفعل الخير، يجدر بنا أن نشير إلى ما ميز به علماء الاجتماع بين شكلين من أشكال العمل التطوعي، وهما السلوك التطوعي الذي يأتي استجابة لظروف طارئة أو لمواقف أخلاقية أو إنسانية من قبيل إسعاف جريح أو إنقاذ غريق وبين الفعل التطوعي ويعني الممارسات التطوعية التي تنبع من الإيمان بأهمية العمل التطوعي، ولا ريب أن اللوك التطوعي لدى المسلم يأتي امتداداً لموروث عميق من الثقافة الإسلامية والأخلاقيات المجتمعية المتوارثة والتي تجذّرت في نفوس المسلمين والعرب، بحيث أن الفرد يمكن أن يبذل نفسه لإنقاذ نفس بشرية، فكلمة «المروءة» التي تشكل مجامع الأخلاق عند المسلم وعند العربي أضحت مقياس نفع المرء ومكانته من خلال هذا النفع في المجتمع. ولكن الخلل يأتي في ممارسة العمل التطوعي بوصفه جهداً منظماً يقوم به الفرد والمجتمع بهدف تحقيق أعمال مشروع دون فرض أو إلزام سواء بذلاً مادياً أ, عينياً أو بدنياً أو فكرياً ودافع ذلك ابتغاء مرضاة الله، إذ بهذا المفهوم، يحتاج هذا (الجهد المنظم) ليصل إلى جعل هذه القنوات من العمل تصب في صالح الأهداف الإنسانية التي قصد العمل من أجل تحقيقها، ولكن هذا الجهد المنظم لا يتأتى من خلال الفردية أو العشوائية، بل من خلال فكر إداري يعتمد المؤسسية، وهي في الأدبيات الإدارية أن تسير منهجية العمل وفقاً لوضع الاستراتيجيات والسياسات والخطط المدروسة وتمضي من خلال فريق متجانس للعمل يقوم بتنفيذ هذه الاستراتيجيات وفق دراية مفصلة بالبيئة وملابساتها وبظروف المراحل التي يتم فيها التنفيذ، وهذا الفهم للعمل الإداري المنظم هو الذي قاد القطاع الثالث في أمريكا والغرب وبعض دول آسيا، وحتى في إسرائيل إلى أن يصبح قطاعاً نافذاً يساهم بنصيبه الكير مع القطاعات الأخرى في النمو المجتمعي ودعم الاقتصاد في تلك البلدان، ومع أن العمل الإنساني لا يقتصر على أمة دون أمة ولا على ديانة دون أخرى أو على عرق دون عرق، ولكننا كمسلمين نتميز بأن التطوع في شريعتنا يصل إلى مرحلة الوادب في فروض الكفايات الذي لا يسقط عن المجتمع الإسلامي برمته إلا أن يقوم به البعض، وإلا أثم على تركه الجميع.
التطوع في الإسلام هو منهج رباني، ووسيلة من وسائل تزكية الأعمال والأموال، قال تعالى: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ سورة البقرة (158) وقال سبحانه وتعالى: فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهَُ سورة البقرة (184)، وحث الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ومن خلال ما حفظه سِفرٌ طويل من مآثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم،والتبايعن لهم بإحسان، على التعاون على البر والإحسان لجميع الناس وبذل المال في سبيل الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين والمحرومين، قال سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى سورة المائدة(2)، وقال سبحانه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ سورة الذاريات(19)، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ سورة البقرة(177). ولم يقتصر فعل الخير في القرآن على المال وحده، كما تعددت نتائجه على فاعله لينال به درجات عليا من الرفعة عند الله سبحانه وتعالى، فجعل فعل الخير وحياً منه للأئمة من الأمة وجعلهم سبلاً للهداية: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ سورة الأنبياء(73)، وربط سبحانه فعل الخير بالفلاح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سورة الحج(77)، وأمر سبحانه بالتنافس في فعل الخير الذي يترتب عليه الفوز الكبير في الآخرة: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ سورة المائدة(48).
أما السنة النبوية الشريفة فقد حفلت بما لا يحصى من الحض على الخير وبينت جزاء فاعليه وأوجهه المتعددة، حتى ذكرت أدنى درجات الإيمان وهي إماطة الأذى عن الطريق، أما أفعال رسول الله صلى الله عليه سولم وأعماله، والذي كان خلقه القرآن -كما قالت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها- فقد كانت بحق مثلاً لا نظير له ولا شبيه في تجسيد الخير في أعلى مراتبه وأرقى صوره، وها هي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها تصف خلق الرسول عليه الصلاة والسلام حتى قبل أن تنزل عليه الرسالة التي هيأه الله سبحانه تعالى على تحملها بخلق رفيع من الصدق والأمانة وحب الخير للناس وبذل الجهد بيده وماله وفكره، وذلك أنه لما رأى جبري لصلى الله عليه وسلم ونزل عليه بقول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (1-3) سورة العلق، رجع رسول الله من غار حراء يرجف فؤاده، ودخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة بالخبر، وقال لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..» متفق عليه. فخديجة كان كل ما وصفت به الرسول حتى أقسمت بألا يخزيه الله، اختارت فيه الصفات التي يتجاوز نفعها الفرد لتعود على المجتمع بأكمله بالفائدة، وأنه لفهم يدل ما تتصف به هذه المرأة العظيمة من صفات أهلتها أن تكون أولى زوجات رسولنا الكريم، كما يدل على مدى ما قدمته لرسولنا الكريم من معونة ومساندة، وللدعوة حتى تشرفت بأن جبريل عليه السلام يخبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أ، الله تبارك من علاه يقرئ خديجة السلام.
والأحاديث النبوية الشريفة في فضل التطوع والحث عليه تكاد تشمل كل منحى يخطر على بال الإنسان، وتعادل أفضليتها كل عمل يرجو الإنسان الأجر والثواب من ورائه مهما عظم، أو تعادله، - وفق ما جاء في الصحاح- فالساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار، ورجل رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يتقلب في اللجنة كان بفضل الله في شجرة قطعها من ظهر الطريق حتى لا تؤذي الناس، ومن يمشي في حاجة أخيه خير له من اعتكاف عشر سنوات، ومن يغدو مع أخيه فيقضي حاجه خير له من أن يصلي في مسجد رسول الله مئة ركعة، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال معنى ولغةً، فيقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، فالأمة التي تهمل حاجات ضعافها وأصحاب الحاجة فيها لهي بحق أمة مريضة مآلها القعود في آخر صفوف الأمم المتطلعة للمواكبة الحضارية، وتحدد السنة مقدار نفع الإنسان بمدى نفعه للآخرين من البشر، مسلماً أكان أم غير مسلم، ولا تستثنى السنة الشريفة أحداً مهما كان حاله حتى إذ عجز لفقره أو ضعف قوته وحيلته أو تواضع فكره عن التطوع منحته السنة المشرفة فرصة المشاركة، وما أجمل قول رسول الله في ذلك: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة».
لقد انعكس هذا الاهتمام في التعاليم الإسلامية سلوكاً وعملاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى التابعين حتى أن قصصهم في البذل بالمال والجهد والفكر أكثر من أن تحصى أو تحكى، والكتب الإسلامية التاريخية تفيض بهذه القصص، وكان الخلفاء الراشدون المهديون القدوة الحسنة -بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في التطوع احتساباً للأجر والجزاء من الله سبحانه وتعالى، فهذا أبو بكر كان يحلب للحي أغنامهم واستمر على ذلك حتى بعد أ، أصبح خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر كان يحمل فوق ظهره الدقيق ليصل به إلى محتاج ويساعد وزوجته أم كلثوم بنت علي امرأة في المخاض، وعثمان ذو النورين أنفق كل ماله في جيش العسرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماضر عثمان ما فعل بعد اليوم، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم». وكان علي يكنس بيت مال المسلمين بنفسه، رضي الله عنهم أجمعين.
ووصل العمل المؤسسي ووضع القواعد المنظمة لها شأواً كبيراً في الفكر الإسلامي، فأفرد علماء المسلمين من الفقهاء والمحدثين أبواباً في كتبهم تبين الأحكام التفصيلية لكثير من الأعمال التطوعية، مثل أحكام الوكالة وأحكام الكفالة وأحكام اللقطة وكلها تستند أساساً على أعمال التطوع، وكل فروض الكفايات كما أسلفنا، والتي لها أبوابها وقواعدها في الفقه الإسلامي هي من الأعمال التطوعية.
يرتكز العمل الخيري والعمل التطوعي في البلاد العربية والإسلامية على قاعدة تاريخية وثقافية وتقاليد موروثة ثرة، فضلاً عن أن العمل التطوعي يرقى إلى درجة الواجب الملزم عند المسلمين متى ما دعت الضرورة ولم يقم بعض المسلمين بسد النقص الناتج عن غيابه (في فروض الكفايات)، ومع ذلك تقبع الدول العربية في آخر القائمة في مقدرتها على تفعيل العمل التطوعي ومساهمة القطاع الثالث برمته في مجتمعاتها في النمو البشري، وقد أضحى ضرورة في ظل ما تشهده الدول العربية من وضع يحتم أن يسهم القطاع الثالث بنصيبه في التنمية المستدامة، والعالم كله يعيش حركة نشطة ومتصاعدة في تفعيل مشاركة المجتمع المدني في النمو والرفاه في المجتمعات. إن تراجع الثقافة التطوعية في المجتمعات العربية ينبئ في المجتمعات. إن تراجع الثقافة التطوعية في المجتمعات العربية ينبئ عن خلل في البنية المؤسسية في غالب إدارات العمل العربية، كما في إدارات العمل الخيري التي غالباً ما تغيب عنها أدبيات وسياسات الإدارة الاستراتيجية والاحترافية العلمية للعمل الخيري وللتطوع بوصفه علماص له أسسه وقواعده.. ومن هذه المعرفة ثم وضع الحلول وفقها فقط يمكن أن ننطلق بالعمل التطوعي العربي، وإدارة الأعمال في مختلف القطاعات العربية أيضاً إلى آفاق النجاح.