يبدأ الأمر من حادثة صغيرة فيتحوّل إلى عقاب اجتماعي تتبنّاه أجهزة الدولة ضد ملايين من البشر.. هكذا بدأت حكاية الورقة الصفراء التي أجبرت عشرات الملايين من النساء السعوديات خلال الثلاثين سنة الماضية، على ضرورة الحصول على إذن من وليّ الأمر لأجل التنقُّل والسفر،
ودفعت ثمنها الآلاف من النساء بنات وزوجات ومطلّقات وأرامل، ممن تمتلئ أروقة المحاكم بقصص عضلهن من قِبل أوليائهن، وهاهي حكاية الفتاة الهاربة مع زوجها في المنطقة الشرقية منذ شهر ودخول والدها للمحاكم مطالباً بإعادتها، تشعل الحكاية من جديد، فيتفتّق ذهن التنفيذي عن فكرة جهنّمية تهدف إلى إشعار كل وليّ أمر بتحركات (قصره) من نساء وأطفال، وبدخولهم وخروجهم من كلِّ مطار عن طريق رسالة نصية تصل إلى جواله مباشرة، وهاهو المسئول يصرِّح في جذل وشعور بالتميُّز الإلكتروني (جريدة الشرق ص 6 العدد 341 بتاريخ 9-11-2012: رسالة نصية تصل إلى وليّ الأمر حال مغادرة أو وصول أحد أفراد أُسرته إلى المملكة) وأضاف: (عملنا يفرض علينا استخدام التقنيات الحديثة في خدماتنا، وهناك عديدٌ من التسهيلات الإلكترونية التي تقدمها المديرية العامة للجوازات عبر موقع وزارة الداخلية الإلكتروني ضمن قائمة الخدمات المتعدّدة، التي من شأنها توفير كثيرٍ من الوقت والجهد على المواطن والمقيم، والعمل يجري على إضافة مزيدٍ من الخدمات الإلكترونية)..
هنا يأتي الخلط في ذهن التنفيذي وتوشُّحه بالحجج (التطويرية) كاستخدام التكنلوجيا، فيكون الخلط بين تقديم الخدمات من خلالها لتسهيل الإجراءات وبين استخدامها لتكريس قيم ثقافية (وليست دينية) غير إنسانية موغلة في التوحُّش والعنصرية تجاه المرأة .
لا تملك المرأة من خلال هذا الإجراء الذي اتبعته إدارات الجوازات في المملكة، إلاّ الشعور بأنها بضاعة.. صندوق يتم استلامه وتسليمه من خلال إشعار نصِّي مثل ما تفعل شركات الشحن وشركات البريد والبنوك. إشعار برسالة نصية.. أيّ غبن.. أيّة مذلّة.
تثير هذه المسألة أمام النساء في المملكة معضلة أكبر هي التي سمحت لهذه السلوك أن يظهر بكل هذه الجراءة المنقطعة النظير، وهو ضرورة حصول المرأة السعودية على السن القانونية التي تتيح لها الاستقلالية عن وليّها حين تبلغ حسب القانون واحداً وعشرين عاماً كما هو متعارف عليه في الأعراف العالمية. هذه المسألة يجب أن تحتل الصدارة في اهتمامات المرأة، لأنها تطرح مسألة الولاية وحق المرأة في الاستقلالية الذاتية ببلوغها السن القانونية، وعدم قدرة الولي على التصرُّف في شؤونها.. هذه الولاية التي تباح للأسف دون النظر في مدى كفاءة هذا الولي على إدارة شؤون من يتولّي أمرهم.. كما تعني الولاية النظر إلى المرأة كقاصر وكشخص يجب التحكُّم في حركته وتفاصيل حياته، باعتباره (غير عاقل) ولا يحمل نفس كفاءة الولي!!
جريدة الوطن في عددها ليوم الأحد الموافق 18 نوفمبر 2012 العدد 4433 وفي صفحة واحدة، أوردت خبرين يؤكدان مدى الجور الذي يقع على ما يعتبره القانون لدينا (قصراً) من نساء وأطفال أوقعها عليهم أولياؤهم من الرجال (العقلاء)، والأحكام القضائية المتعاطفة التي أصدرها القضاة بحق هؤلاء الأولياء، فالأول يخص طفلاً تخلّي عنه والده للسائق بعد طلاق والدته ورفض الزوجة الأولى أن تعتني به، فحمله الأب لسائقه القديم وأبقاه عنده حتى بلوغه السادسة عشر، وحين تقدم السائق بطلب تعويض من الأب الثري نتيجة ما تكبّده من معاناة في تربية الابن رغم فقره، حكم له القاضي في المحكمة العامة بجدة بتعويض لم يتجاوز عشرة آلاف ريال سعودي أي بواقع ريال وسبعين هللة عن كل يوم!!
والثانية أقرّتها المحكمة العامة بمكة، وذلك بطلب الخلع الذي تقدّمت به مواطنة قبلت بالتنازل عن مؤخر صداقها، بعد أن هجرها زوجها وهجر الأولاد لسنتين وأساء معاملتها ولم يوفر لها مسكناً شرعياً، ولم تحكم المحكمة بأي شيء ضد الأب الذي أهمل منزله وأولاده وزوجته، وكان على الأم التقدم بالتضحية بمؤخرها للهرب بنفسها وأولادها من شر المعاملة.. هذه هي النماذج التي نخاف منها على المرأة والطفل، وهي التي تثبت مرة بعد أخرى أنّ المرأة دائماً هي التي تتنازل عن كل شيء، وتقدم نفسها وشبابها لرعاية منزلها وأطفالها إذا ما حصل سوء بينها وبين زوجها.
الوطن أيضاً في عددها ليوم الثلاثاء 20 نوفمبر، عدّدت حالات العنف ضد الأطفال التي بلغت 500 فقط وهي تلك المبلّغ عنها في المدن الرئيسية، فأين التنفيذي من كل هذه الحوادث المتكرّرة للإيذاء وبطلها دائماً وليٌّ لا يخاف الله، وأين ملاحقته ومعرفة مكانه بدل ملاحقة المرأة ومعاملتها كمجرمة وهي البالغة العاقلة والأم والطبيبة والتاجرة ورئيسة القسم والزوجة والأخت والابنة؟
المملكة العربية السعودية دولة كبرى لا يُستهان بها على المستوى العالمي، وقد أبرمت اتفاقات دولية واضحة، ومن أهمها على الإطلاق فيما يخص شؤون المرأة هي معاهدة السيداو، التي نصّت على منع كل أشكال التمييز بين المرأة والرجل في كل مناحي الحياة، والمملكة وقّعت على تلك البنود التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وبلا شك فإنّ إجراءً كهذا لا علاقة له بالشريعة السمحاء التي تكرم المرأة وتثق فيها، وقدمت نماذج كبيرة لعلّ أبرزها زوجات النبي رضوان الله عليهن السيدة خديجة بنت خويلد والسيدة عائشة اللاتي تمتعن بقوة ومكانة، وتصرّفن كنساء متمكِّنات قويّات، ولولا أنّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه منحنهن الحب والثقة والرعاية لما سجلن كل هذه المآثر الرائعة التي لا زالت تطرِّز عوالمنا الحاضرة.
قضية الرسائل النصية يجب أن تثير مسألة البطاقة الصفراء من أصلها التي لا بد للمرأة وللقصر من الحصول عليها من الولي، حتى يتمكنوا من السفر وعدم صلاحيتها للوقت الحاضر وللمرأة الجديدة التي نشهدها تغزو عالمنا وأتحنا لها فرص التعلُّم والتدريب والعمل والمشاركة في الانتخابات البلدية ومجلس الشورى، وهاهي تعامل كمجرم تستحق خطواته المتابعة، كما يجب أن تثير ضرورة حصول المرأة على حق الاستقلال ببلوغها السن القانونية، إضافة إلى تأكيد أنّ هذه التبعيّة والتخوين للمرأة الآن عن طريق هذه الرسائل النصية المذلّة، لا ينتج إلاّ مزيد من القلق والشك في النظام الاجتماعي بين جيل الحاضر والمستقبل من النساء..
ارحمنا أيها الوطن الغالي فنحن شقائق الرجال واحفظ لنا عقديتنا من هذه التفسيرات المشوّهة. أسألكم هل نحن خارج سياق الزمن؟..
أم أننا في حلم كريه يجب أن يدفعنا أحد لنستيقظ منه؟