الماضي هو موضوع التاريخ. أي الذي لم يعد موجوداً.
طالما أننا لا نستطيع “إدراك” إلاّ ما هو راهن، ينبغي أن نبني معرفتنا بالماضي، انطلاقاً من معرفتنا ببعض الأحداث الحاضرة. الحدث الحاضر الدالّ على حدث ماض ٍ يُسمى “أثراً”.
فن المؤرخ يكمن، بداية ً، في اكتشاف أن بعض الأحداث، وبعض الأشياء، هي “آثار”، ومن ثم في محاولته تفسيرها بطريقة صحيحة.
المؤرّخ العظيم مَنْ يُتقن استنطاق “الآثار”، التي لم يُفكر فيها أحد قبله. في أن يُسائلها. من هذه النقطة بالإمكان الانطلاق لاستخلاص نتيجة مفادها استحالة عمل شيء، حيث لا يوجد “ أثر”، لأنه ليس ثمة شيء يُمكن تفسيره.
إن النسيان التام هو “نسيان النسيان” عينه. إنما نحن لا نستطيع التكلّم عن نسيان حين لا نزال نتذكّر أننا نسينا شيئاً ما. لكن حينما توجد “الآثار” يجب تفسيرها. أي أن على “علم الآثار” أن يفسّر معنى الأشياء التي يكتشفها.
لتحقيق هذا الهدف، على “علم الآثار” المخاطرة بطرح فرضيات. بلى. إنها مغامرة.
سؤال: مستقبلاً، ما الذي يُمكن أن يُقال عن حضارتنا، إن اختفى كل نصّ ٍ مكتوب أو مُسجل؟
هذه ليست مجرد فرضية. الأسس الإلكترونية الحديثة تسمح بتخزين عناصر يفوق عددها ملايين الأضعاف لعدد الوثائق المادية القديمة، مثل حجر الكتابة المحفورة أو ورق البردى أو الرقوق أو الورق التي كانت تُسجّل عليها الأحداث. لكن قراءتها تحتاج إلى أدوات سريعة العطب ولا تستمر طويلاً.
يستحيل علينا معرفة إلا الذي نملك منه أو عنه “آثاراً”. أما الذي اختفى كلياً، فلا ندري أننا نعرفه. بالنسبة لما هو موجود، لسنا أكيدين من أننا نمتلك الإطار الذي يُمكننا من معرفته.
فوق إحدى قمم جبال الألب، منذ أكثر عشرين عاماً، يبني علماء مدينة يُمكن تلخيص وظيفتها بـ “إعادة كتابة تاريخ البشرية من خلال استمطار أصوات العظماء والمشاهير عبر رصد ذبذبات كلام أولئك العظماء والمشاهير من فضاء الكون، منذ بداية الحياة على هذا الكوكب”.
مشروع إعادة كتابة تاريخ البشرية عبر رصد وتسجيل أحاديث عظمائها ومشاهيرها، تبدو عملية في غاية الصعوبة (هل هي مستحيلة؟)، لأنها تحتاج إلى علماء متخصصين حاذقين، في جميع المجالات العلمية، علاوة عن الزمن الطويل الذي يستغرقه بناء هذه المدينة، للبدء بتنفيذ هذا المشروع الإنساني الأول في تاريخ البشرية.
هل يريد هذا المشروع أن يقول: إن الماضي هو الماضي، لكن وقائع التاريخ مسألة أخرى؟
Zuhdi.alfateh@gmail.com