لا أعرف لماذا اختار اللسان العربي في عقوده الأخيرة مصطلح تطبيل لوصف حالة المدح الزائف والإشادة لغرض الإشادة، وهل ذلك له علاقة بالطبل الذي يُصدر أصواتاً عالية ومسموعة؛ لأنه مجرد طبل أجوف، صُنع من الجلد ثم نُفخ ليصبح مصدراً عالياً للانتباه والرهبة، أم أن في الأمر ما هو أعمق من ذلك؟ فالطبل كان آلة لها مكانتها عند قدماء السومريين، وكان صوت الطبل الأعلى يُستخدم لفرض الهيبة على الناس، وكانوا يخصصون للطبل الكبير الذي لا يفارق الهيكل حارساً برتبة كاهن عظيم، وحين أتحدث عن التطبيل لا أعني أن كل إشادة تدخل في باب التطبيل، ولكن أعني أن الإشادات المتواصلة التي تروج لنجاحات غير حقيقية تدخل في مصطلح التطبيل، وأنه في حقيقة الأمر أكثر من مجرد إشادة زائفة.
فقد يكون التطبيل غاية حين تظهر نتائج برنامج توطين للمهن مخيبة للآمال وتستمر الإشادة، وأعني بذلك نتائج برنامج توطين المهن الوهمي، وهو مصطلح تم تداوله وقبوله إعلامياً؛ لذلك حسب وجهة نظري دخلت الإشادة ببرنامج توطين المهن في سوق العمل في خانة التطبيل، بعدما تم الإصرار عليه، ثم رفع سياسة عصا الضريبة المالية بدلاً من جزرة مزيد من التأشيرات، وما لم نواجه هذا الأمر بنقد موضوعي وإعادة نظر ستكون نتائجه سلبية على توطين المهن في المستقبل، ولا أرى بديلاً عن دراسة تحجيم أو إلغاء نظام الكفيل الذي يقف بكل جدارة خلف بطالة السعوديين بلا منازع، والذي جعل العامل السعودي ضحية للمصالح الخاصة عند الكفلاء أو السادة الذين يعيشون في رخاء على كد وكسب العامل الأجنبي في سوق العمل.
ويكون التطبيل أيضاً وسيلة ناجحة حين يروج المسؤول لإنجازات فردية في المؤسسة، بينما كان يستخدم معايير إقليمية وشخصية عند تقييم الإنجازات وتوزيع المكافآت في مؤسسته أو وزارته، بل قد يصل الأمر إلى التقليل من مكانة الأشخاص المميزين والناجحين خوفاً على منصبه، ولكن حين يحدث الإنجاز الفردي، ثم يصبح حقيقة، يستخدم التطبيل من أجل «التكويش» على الإنجاز، ثم يعود إلى طريقته القديمة، بعد أن «يضبط» علاقاته الشخصية، ثم ينتظر فرصة أخرى لتشغيل الطبول من أجل أن يستمر في منصبه أعواماً أخرى. لكن الأخطر من ذلك حين يصل المسؤول إلى قناعة بأن التطبيل المتواصل، بلا إنجاز، أصبح وسيلة ناجحة لجعله في حصانة إدارية من المحاسبة على أخطائه الجسيمة.
يصبح التطبيل إنجازاً عندما يخرج المسؤول في كامل زينته يتحدث في وسائل الإعلام عن المشاريع العملاقة في وزارته، وأنه تم رصد عشرات المليارات لبناء المشاريع العملاقة، وبعد سنوات يكتشف المواطنون أن المشاريع تعثرت، ولم يكتمل الإنجاز، وأن ما حدث كان مجرد تطبيل لمعاليه من أجل أن يظهر في موقع صاحب الإنجاز. وتُكرَّر تلك الصورة النمطية من المسؤول نفسه؛ لأنه اكتشف أن التطبيل في حد ذاته إنجاز يستحق أن يكون في رأس قائمة أولوياته. ويصل المسؤول إلى تلك الحالة بسبب غياب المتابعة والمحاسبة لمن يستغل منصبه من أجل الترويج لإنجازات وهمية، بينما الواقع وانطباعات المواطنين تقول غير ذلك، وأيضاً لأنه وصل إلى قناعة بأن درجة رضاهم وسخطهم عن أدائه لا تغير في الأمر شيئاً؛ لذلك يكتفي المسؤول بإنجاز التطبيل الإعلامي، وإن لم يكتمل المشروع.
ويكون التطبيل منهجاً حين يصرح المسؤول بأنه لا يتدخل في أي عمل صحفي، بل يريد من المواطن أن تكون لديه رقابة ذاتية فيما يُبثّ، بينما يمارس دور الموجِّه الإعلامي والتضييق على النقد الموضوعي، ويشجع في الاتجاه نفسه تفعيل دور القلم الأحمر في تقليم الرأي العام، وعندما يكون ذلك منهجاً يكسب المطبلون ويخسر الموضوعيون في ساحة الرأي الرسمية، وبسببها تنقسم الساحة إلى قضية موالٍ وحاقد، ويخسر الوطن الرأي الآخر، بينما من المفترض ألا يُصبح الوطن وشرعيته التاريخية هدفاً لسياسة التطبيل، وأن يكونا في منأى عن سياسة والتوجيه الإعلامي والتملق الممقوت.
وقد يتحول التطبيل إلى واجب عندما يتوجب على الجميع أن يُطبل حين يأتي دوره في الحديث، وحين يختزل المطبل الإنجاز في اتجاه واحد، ويُنسب الفشل - إن حدث - للآخرين المجهولين في الهامش؛ لذلك يندر أن سمعت من مسؤول إشادة بأدوار موظفيه الأقل منه مستوى في تحقيق الإنجاز، والسبب أنه حين يُصاب بداء التطبيل يعتقد أن من واجبه الوطني أن يُطبل لمن هو أعلى منه مهما كانت النتائج؛ وبالتالي يفقد ميزة النظر للأدنى، ويكتفي بخاصية النظر للأعلى والإشادة به؛ لأنه يراه بوضوح ويراقب نظراته وإيماءاته، بينما يكتفي بالاتصال بمن هو دونه من خلال غريزة التعالي والتهميش على من هو أدنى.