لم يكن أبناءُ غزة ولا الفلسطينيون وحدهم من فرحوا وأسعدَهم الاتفاق على هدنة لوقف إطلاق النار بين الحكومة المُقالة في غزة والعدو الإسرائيلي، فجميعنا صفقَ للاتفاق، ورأى فيه مخرجاً من هذا النفق الدامي الذي راحَ ضحيته أكثر من مائة وستين شهيداً فلسطينياً ومئات الجرحى في غضون ثمانية أيام، وكان هذا النهر من الدماء الفلسطينية - لولا الهدنة - مُرشحاً للصعود، ومن دون أن يكون له من سقف يُمكن التعرف عليه أو أن يُقدّر حجمه، نسبة لما عُرف عن العدو الإسرائيلي من ممارسات إجرامية واعتداءات وحشية وتعامل لا إنساني مع الشعب الفلسطيني الأعزل منذ اغتصابه لجزء من أرض فلسطين عام 1948م وحتى تمدده على ما بقي منها عام 1967م وإلى اليوم.
***
وبسبب سوء التقدير الفلسطيني في غزة لقوة العدو، واعتماده على رهان الدعم الشكلي الآتي من إيران وغير إيران، ثم إعطاء الزخم الإعلامي أكثر من حجمه في تغيير صورة ميزان القوى لصالح القضية الفلسطينية هو الذي حوَّل مواجهاتنا ونتائج حروبنا سواء بين إسرائيل والعرب أو بين إسرائيل والفلسطينيين إلى انتصارات إعلامية، نحسن فقط في ابتكار مصطلحات لها بغرض التخفيف من آثار الهزيمة، فهي نكسة أحياناً، وهي خسارة جولة لا خسارة حرب أحياناً أخرى، وهكذا اعتادت شعوبنا على هروب من ورّطها من زعماء الدول والمنظمات باستخدام شعارات برّاقة تُخدّر بها الأمة بينما نجد أن هناك من بيننا من يُدافع عنها ويلتمس لها المعاذير والأسباب.
***
ولعل في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة - مع ما فيه من مرارة وألم ومن تشابه مع سابقاته- يساعدنا على أن نتدبر أمورنا بالحكمة والعقل، وأن نبتعد عن الاجتهادات والمغامرات التي أضرّت وتضرّ إلى اليوم بقضيتنا ومن دون أن نتعلم شيئاً من الماضي بدروسه وعبره وما آلت إليه كل حروبنا مع العدو من دمار شامل وأعداد هائلة من الشهداء، مع ضياع المزيد من الأراضي العربية، واحتفاظ العدو بالدعم السياسي والعسكري والإعلامي من أقوى دول العالم وبأكثر مما كان عليه بدليل تأييد أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا للعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
***
ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن الإعلام وحده لا يمكن له أن يعيد الأراضي لأصحابها، ولن يحقق السلام العادل الذي يقوم على مولد الدولة الفلسطينية الحرة وعاصمتها القدس، كما أن الموقف الإيراني المشبوه من القضية الفلسطينية وأطماعها في الأراضي العربية الأخرى لا يحتاج منا إلى دليل، فها هي تتمدد في لبنان من خلال حزب الله، وفي سوريا والعراق من خلال الأسد والمالكي، وهي في اليمن عبر مجموعة الحوثيين، ومثلما هي أخيراً لا آخِراً في غزة مع حماس والجهاد وهكذا، ما يعني أن الوحدة بين الفلسطينيين في القطاع والضفة والتوجه نحو الأشقاء العرب المخلصين هو الخيار السليم الذي يعيد مسار القضية إلى طريقها الصحيح.
***
بقي أن نقول: إن الحديثَ عن انتصار تحققَ في الحرب الأخيرة في غزة، إنما هو تخدير للشعب الفلسطيني الجريح، وهروب من المسؤولية، وإمعان في تكرار الخطأ، واستمرار في بقاء الحلم الفلسطيني والعربي بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس يراوح في مكانه ومن دون حل، وبالتالي فهو رهان على المزيد من الحروب والمزيد من الشهداء والمزيد من الدمار، لا رهان على إعادة الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية والاستمتاع بنسيم الحرية والأمن والسلام بعد طول الانتظار.