كتاب ثانٍ استوقفني في إطار الكتب المتميّزة التي تترجمها الملحقة الثقافية السعودية في فرنسا التابعة لوزارة التعليم العالي السعودية، وهو كتاب “نهاية الصحف ومستقبل الإعلام” لمؤلِّفه “برنار بوليه”، فموضوع “نهاية الصحف” والتساؤلات حول بقاء الصحافة
الإخبارية تشكِّل قضية ساخنة في النقاش العام في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات عديدة، أما في فرنسا فمازال المسؤولون يفضّلون الحديث عن عملية “إصلاح” أو “مرحلة انتقالية” أو “عملية تكييف”، ولم يناقشوا حتى اللحظة فرضية إمكانية اختفاء جوهر الصحف الورقية والمنعطف الذي تمر به عملية إنتاج الإعلام؛ والدليل هو المصير الذي آل إليه تقرير مستقبل الصحافة المكتوبة الذي حرّره فريق عمل برئاسة عالم الاجتماع جون - ماري شارون بطلب من معهد المهن الصحفية. فما إن اكتمل هذا التقرير في يونيو 2008، حتى وضع قيد السرِّية بناءً على طلب عدد من الشركاء المموّلين، إذ بدا أنّ إحدى فرضياته مثيرة للكثير من التشاؤم والخوف. وعلى العموم يمكننا القول إنّ مسألة اختفاء الصحافة الإخبارية والمكتوبة والمطبوعة ورقياً صارت بمثابة “نقاش محظور” في فرنسا. وفي ذلك السلوك مكابرة واضحة أو تهرُّب من الخوض في مسألة جوهرية تمس مجالاً اجتماعياً عتيقاً في صلب الحضارة الراهنة.
لا شك أنّ الجميع يعترفون بأنّ الصحافة “في أزمة”. وقد نبّه إلى أهمية هذا الأمر رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي بإطلاقه “الهيئة العامة للصحافة المكتوبة” في خريف 2008. لكن هذه الهيئة، كما هو الأحوال في الأسواق المالية، لم تقم في نهاية المطاف بأكثر من إجراء تعديل في عملية التنظيم، ويتمثل أهم ما صدر عنها في الفقرة التالية: “سنعمل على تحسين عملية التوزيع وتخفيض تكاليف الطباعة وإعادة رسملة مؤسسات الصحافة وتطوير مواقع الإنترنت وإعادة تنظيم المساعدات”، وذلك بغية أن يتواد الفرنسيون مجدداً نحو الأكشاك لشراء صحفهم، ذلك لأنّ رئيس الدولة “يؤمن بمستقبل الصحافة”.
لا ينبغي القول إنّ الإعلام مهدّد بالموت لأنّ رئيس الجمهورية - ويعني بذلك الكاتب الرئيس نيكولا ساركوزي - لا يعتقد “أنه سيأتي اليوم الذي لن يكون هناك أحد مستعد للدفع من أجل التحليل والاستقصاء”. ولا ينبغي التأكيد أنّ العديد من كبريات الصحف قد تختفي قريباً، لأنّ الاتحاد العالمي للصحف يؤكد لنا أنّ “الصحيفة هي مؤسسة إعلامية في قمة النمو”. وعلاوة على ذلك، بما أنّ الرئيس، وقس على ذلك العديد من رؤساء فرنسا - يؤمن “بمستقبل الورق”، فينبغي تحاشي اعتبار أنّ صحافة التحقيق مهدّدة بالاختفاء، هذا في الوقت الذي تغادر فيه الإعلانات الصحافة المطبوعة على الورق، ولا تتزايد في الوقت ذاته على المواقع الإخبارية للصحف على الإنترنت. وقد يكون من غير المقبول أخلاقياً دق جرس الإنذار، لأنّ ضجيج ناقوس الخطر قد يثير الخوف؛ فالكثير من مسؤولي الصحافة يبذلون ما بوسعهم في سبيل تصوُّر استراتيجيات جديدة، ومعظم النقابات الصحفية تخشى من دفع ثمن التغيّرات.
من فرط قولنا إنه لا ينبغي تكرار دور “كاساندرا” في إطلاق التنبؤات والتحذيرات، انتهى بنا الأمر إلى نسيان أنّ المشكلة لم تكن كاساندرا، التي لسوء الحظ حكم عليها بأن تقول الحقيقة دون أن يصدقها شعبها الذي لم يكن يرغب في الاستماع إليها، لكن المشكلة تكمن في أهل طروادة الذين لم يصدقوها عندما أنبأتهم بدمار مدينتهم. فإنكار الواقع لم يحل دون موت ملك طروادة، كما أنه لن يحول دون إفلاس هذه الصحف.
إنّ هذه الحالة من الإنكار أو المكابرة لا تخص الصحافة وحدها، بل قد لاحظناها لدى الاقتصاديين والمسؤولين السياسيين إزاء الأزمة المالية والاقتصادية، فهؤلاء أيضاً كانوا يكررون على مر الشهور جرعات مهدئة على غرار: “الأزمة خلفنا” و”تم تفادي الخطر الموجود في النظام” وتأكيدات تبسيطية أخرى.
وخلف ضجيج التصريحات الإرادوية للرئيس، لم تظهر الهيئة العامة للصحافة المكتوبة إلاّ عدم البصيرة ذاتها. وإذا كان من صحيح القول إنّ تكاليف الصناعة والتوزيع ترهق ميزانيات الصحف على نحو باهظ، فإنّ منح بعض المساعدات الجديدة لن تغيّر مجرى النهر. فهذه المساعدات تمثل 10 في المائة من الحركة المالية للصحف اليومية غير المجانية، ورغم ذلك فجميع هذه الصحف تقريباً تعاني من العجز.
يقال إنّ فرنسا يعوزها وجود “مجموعات إعلامية كبرى”، بيْد أنّ الواقع يؤكد أنّ الصحافة الأمريكية تموت بسبب وجود مثل هذه المجموعات التي خضعت للتداول في البورصة وحكم عليها بأن “تولد قيماً للمساهمين”، تموت وهي واقعة تحت وطأة الضغط المتزايد لرفع ميزان عائداتها. وفي المقابل، على الرغم من أنّ كبريات الصحف العالمية تواجه هي أيضاً صعوبات خطيرة كالنيويورك تايمز والواشنطن بوست والغارديان والكورير ديلا سيرا والفرانكفورتر زايتنج الألمانية، إلاّ أنها لا تنتمي إلى “مجموعات إعلامية كبرى” متعدّدة الجنسيات ولا إلى مجموعات صناعية - باستثناء الكورير ديلا سيرا - وتعيش من عقود عامة كما هو الحال غالباً في فرنسا.
المؤسسات الصحفية في معظم البلدان الأوروبية هي في المقام الأول وطنية، وإذا أمعنا النظر فيها عن قرب نجد أنّ تدويلها لم ينجح. وقد خرجت مجموعة فينينست، الإمبراطورية الإعلامية التي يمتلكها سيلفيو بيرلسكوني، بذكرى مريرة من دخولها إلى فرنسا في إطار القناة التلفزيونية الخامسة. أما المؤسسة الألمانية برتلزمان أكبر مجموعة إعلامية أوروبية والثالثة عالمياً، فقد أبعدت في 2002 رئيسها توماس ميديلهوف الذي أثقلها بالديون بسبب سياسة الامتلاك المكلفة والمرهقة وخصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان لدى فرنسا، وهذا ما نتناساه، مجموعة إعلامية كبيرة متعدّدة الجنسيات في عهد جون - ماري ميسييه والمتمثلة في مؤسسة فيفندي التي ما برحت اليوم تمثل ثالث مجموعة ترفيع وإعلام في العالم، بعد تايم ورنر وديزني. وننسى أيضاً أنّ روبير هيرسان قد أسس مجموعة كبرى للصحافة والتلفزيون وانهارت بسبب ديونها. وننسى أخيراً أنّ مجموعة آشيت التي يملكها أرنو لاغاردير هي سابع مجموعة إعلامية والأولى في طباعة المجلات. أما بشأن اليوميات الفرنسية فنعلم أنّ لوفيغارو تعود ملكيتها إلى سيرج داسو التي تُعَد واحدة من أثرى الشركات الفرنسية، وأنّ المساهم الأول لصحيفة ليبراسيون هي روتشيلد، وأنّ لوموند بالرغم من كونها مستقلة، تساهم في رأسمالها أكبر المجموعات الصناعية في فرنسا.
ومن ثم لا يمكن تلخيص مشاكل الصحافة في وجود “مجموعات إعلامية كبرى”، حتى وإن كانت العوائق القانونية بكل أنواعها قد شكّلت ولفترة طويلة عقبة حقيقة. فإنشاء مثل هذه المجموعات لا يرتقي بالضرورة إلى مستوى التحديات التي يواجهها الإنتاج الإعلامي. ولا نجرؤ إلاّ أن نتخيّل أنّ رئيس الجمهورية قد فكر في إنشاء ديزني على الطريقة الفرنسية، فمن المفترض تنبيهه أنّ مؤسسة ميكي، وهي أيضاً مجموعة إعلامية كبيرة، لا تملك أيّ صحيفة. فالخلط بين ما اعتدنا على تسميته بـ “وسائل الإعلام” والمؤسسات الإعلامية يساهم كثيراً في تشويش التشخيص. وإذا لم نكن بالضرورة قلقين على بقاء صحيفة ميكي ومجلة مونتر وعدد من مجلات المرأة وتلك الخاصة بالمشاهير، فالأحرى بنا أن نكون قلقين على بقاء الصحافة ووسائل الإعلام الخبرية.
فهذه الأخيرة تعيش ثورة ذات جذور تاريخية تتمثل في سخط وعدم ثقة القرّاء، ومنافسة من القنوات التلفزيونية، وشيخوخة فئة القرّاء، وارتفاع تكاليف الصناعة، الخ. وعلى حين غرة، تسارعت هذه الثورة منذ تحوّلات الألفية الجديدة.. وفي الواقع حدثت ثلاث ثورات جديدة وتزامنت في آن معاً: وهي التعميم الرقمي، والانخفاض الكبير في اهتمام الأجيال الشابة بكل ما هو مكتوب، وعدم اهتمام الشباب بالإعلام، والتخلِّي عن الإعلام كوسيلة مفضّلة للإعلانات.