كان مما تناولته في الحلقة السابقة من هذه المقالة بعض ما ورد عن اللغة العربية والتعليم ما قبل الجامعي في إعلان مؤسسة الفكر العربي المعنون: “لننهض بلغتنا”. وفي هذه الحلقة وهي الأخيرة، سأتناول شيئاً مما ورد في ذلك الإعلان
عن اللغة العربية والتعليم الجامعي. كان مما ذكر في التوصية الأولى في هذا المجال:” استحداث شهادة كفاية لغوية عربية كالشهادة المعتمدة بالنسبة للانجليزية TOEFL، واعتبار الحصول عليها شرطاً للدخول إلى الجامعة والالتحاق ببعض المهن والوظائف في الحقلين الرسمي والخاص”. وإني لعلى يقين بأن ما أوحى بهذه التوصية حرص نبيل لدى من وضعها على اللغة العربية. لكني أرى أن في جعل ما ذكر شرطاً لدخول الجامعة حرصاً ليس ضروريَّا؛ لا سيما إذا كان الطالب سيذهب إلى كليات علوم بحتة أو تطبيقية. ولَعلَّ من الأَولى أن يقتصر ذلك الشرط على من يريد الالتحَاق بكلية الآداب، وكلية الشريعة، وإلى حَدِّ ما كلية العلوم الاجتماعية وكلية الحقوق. أما جعل ذلك الشرط على من يريد الالتحاق ببعض المهن والوظائف في الحقلين الرسمي والخاص فإني أرى في ذلك وضع عقبة ينبغي عدم وضعها.
أما التوصية الثانية عن” اللغة العربية والتعليم الجامعي” فتنص على:” دعوة وزارات التعليم العالي في الوطن العربي - بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة - إلى وضع سياسة وطنية على المستوى العربي لمعالجة قضايا اللغة العربية في المناهج الجامعية من حيث الحرص على مواصلة التمكن منها، واستخدامها من أجل تحقيق التعريب التدريجي في التعليم، وفي مقررات العلوم والتقنيات الحديثة بخاصة”.
والمتأمل في التوصية يرى أنها قاصرة جداً عما قَرَّره وزراء الصحة العرب قبل أكثر من عشرين عاماً؛ إذ كانوا قد قَرَّروا أن تكون المواد الصحية بجميع فروعها في الجامعات العربية باللغة العربية؛ وذلك - بطبيعة الحال - أن تكون عربية تأليفاً أو مُعرِّبة. لكن قد يقول قائل: إن أوضاع أُمَّتنا حين قَرَّر أولئك الوزراء المحترمون ما قَرَّروا غير أوضاعها بعد غزو جيش صدام حسين للكويت وما نتج عنه من آثار سلبية بينها تَرسُّخ القبلية وترسيخ اللهجات المحلية؛ وذلك ما اتضح - مثلاً - في دول مجلس التعاون الخليجي من صدور مجلات تعنى بالقبائل والشعر العامي النبطي، ثم انطلاق عدد من القنوات التليفزيونية تعنى بما عُنيَّت به تلك المجلات.
وكان من آثار ذلك الغزو السلبية سياسياً أن ارتد زعماء العرب عن سياسة أسلافهم المحترمين، الذين قَرَّروا ما قَرَّروا في مؤتمر الخرطوم عام 1967م. صحيح أن ذلك الارتداد بدأ حين خرق السفينة أنور السادات باتِّفاقية كامب ديفيد. لكن الغزو المذكور وَسَّع نطاق الارتداد؛ إذ قَدَّمت أمريكا خدمة جليلة للكيان الصهيوني بجلب الزعماء العرب إلى مدريد حيث تفاوضوا مع ذلك الكيان؛ وهو الأمر الذي كان أحد البنود الثلاثة في مؤتمر الخرطوم: لا سلم ولا مفاوضات مع الصهاينة ولا اعتراف بكيانهم.
وبعد مؤتمر مدريد توالت تنازلات قيادات العرب حتى تَحقَّق ما تَحقَّق من نجاح أمريكي في أمركة منطقتنا العربية بما في ذلك الجانب الثقافي الذي يتضح من أدلَّته تغيير لغة التدريس في جامعة هي الجامعة الأم في دولة عربية خليجية من اللغة العربية إلى الانجليزية. بل وصل الأمر - من السوء - إلى حد أن أكبر دولة من دول مجلس التعاون الخليجية العربية سمحت للمدارس الخاصة التجارية أن يلتحق بها السعوديون؛ وهم الذين يعيشون في مهد العرب ومهبط الوحي الذي أُنزل بلسان عربي مبين؛ علماً بأن لغة التدريس فيها من السنة الأولى الابتدائية بلغة أجنبية - والمشاهد - مع الأسف الشديد - أن الإقبال على تلك المدارس سريع الانتشار.
ومن المؤسف والمؤلم أن أعداداً لا يستهان بها من أساتذة الجامعات العربية؛ وبخاصة في ميداني العلوم البحتة والعلوم التطبيقية، قد درسوا في جامعات غربية، ولم يكن من ثمار دراستهم تأليف مُقرَّرات جامعية بلغتهم العربية؛ تأليفاً أو ترجمة. وعندما أثيرت هذه المسألة مع أحد الأساتذة المحبين للغتهم العربية قال: لا تعجب من هذا وحده، لكن العجب أن وطننا العزيز.. المملكة العربية السعودية.. قد حصل روَّاد الباحثين من أبنائها على درجة الدكتوراه من جامعات غربية راقية قبل أكثر من خمسين عاماً، وتزايدت أعدادهم سنة بعد سنة. ومع ذلك كله لم تجد قيادة المملكة - وَفَّقها الله للسداد - واحداً منهم مؤهلاً لإدارة جامعة تحظى بدعم مالي منقطع النظير؛ بل أسندت إدارتها إلى باحث غير وطني يعرف المطَّلعون على الأمور كم مرتبه الشهري.
أما ما ورد في التوصية عن “ وضع معاجم المصطلحات سعياً وراء إثراء المحتوى العلمي في جميع الميادين المعرفية” فأمر يحتاج إلى الدقَّة. لا أعتقد أن القضية قضية وضع معاجم للمصطلحات أو عدم ذلك. فهناك معاجم؛ اختلفت في تعريب بعض المصطلحات أو لم تختلف. القضية قضية سياسة دولة. سوريا؛ بموقفها المحمود تجاه اللغة العربية، لم تنتظر صدور معاجم مصطلحات؛ بل جعلت التدريس في جامعاتها وفي مختلف وجوه المعرفة باللغة العربية. ولو حذت الدول العربية، أو أغلبها، حذوها لأصبح هناك أمل في أن تنطبق أعمال الزعامات العربية مع أقوالها فيما يَتعلَّق بالحرص على لغة أُمَّتنا العربية.
على أنني مع الذين يرون أنه ليس من الضروري عدم استعمال المصطلح العلمي كما هو بلغة مؤلِّفة. فلست أرى - مثلاً - تعريب الانترنت إلى “ الشبكة العنكبوتية “؛ بل إني أنفر من هذه الترجمة، وأرى أن تبقى كما هي بلغة من تَوصلُّوا إلى معرفتها دون ترجمة. وتَبنِّي لغة من اللغات لكلمات من لغات أخرى أمر لا يحتاج إلى تدليل. فالقرآن الكريم نفسه يشتمل على كلمات ليست عربية؛ بل عُرِّبت وأصبحت من لغتنا العربية.
والتوصية الثالثة عن “ اللغة العربية والتعليم الجامعي “ تنص على ما يأتي:
“ اعتماد اللغة العربية في التعليم الجامعي في إلقاء المحاضرات بلغة فصيحة مُيسَّرة، وكذلك في التدريب وإجراء البحوث العلمية والتجارب والاختبارات، وتأليف الكتب المرجعية المستخدمة في التعليم”.
وهذه التوصية الجميلة لا أظنها تحتاج إلى تعليق. على أن تعليقي عليها هو استذكار مثل شعبي نصه: “ قال انفخ يا شريم، قال ماش برطم “ والبرطم باللغة العامية هو الشفة، وهو - في هذا المجال - سياسة الزعماء. فما يدل على واقع سياستهم، أو سياسة أكثرهم، ضد التعريب، والميل إلى التأمرك في جميع جوانب الحياة ومنها الجانب الثقافي.” وأما إلقاء المحاضرات والبحوث بالعربية فإني، هنا، أود أن أشير إلى أمرين: الأول أن من نتائج سياسة الرئيس بومدين، رحمه الله، في ميدان التعريب أني رأيت الإخوة الجزائريين في المؤتمرات التي حضرتها يَتكلَّمون باللغة العربية الفصحى، وأني رأيت من أَدلَّة التأمرك في وطننا.. المملكة العربية السعودية .. باحثين سعوديين يلقون بحوثهم بالانجليزية؛ وذلك في مؤتمر أقامته في الرياض وزارة التعليم العالي.
أما التوصية الرابعة عن “ اللغة العربية والتعليم الجامعي “ فتنص على ما يأتي:
“ تشجيع أعضاء هيئة التدريس والطلاب على القيام بالأبحاث، وتحفيزهم على الترجمة من اللغات الأجنبية، واعتماد العربية في جميع وسائل النشر العلمي للجامعات، وفي المؤتمرات والندوات وورش العمل، واعتبار الأبحاث بعد تحكيمها مقبولة للترقية إلى الدرجات العلمية”. والتوصية جيدة واضحة. وإذا حكمت على ما هو جار في “ جامعات “ وطننا العزيز وكلياته فإن كثيراً مما نادت به التوصية؛ وبخاصة في ميادين اللغة العربية والشريعة والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مُتحقِّق، والحمد لله.
وأما التوصية الخامسة؛ وهي الأخيرة، فتقول: “استحداث تَخصَّصات علمية ضمن المناهج الجامعية تواكب التقنيات الحديثة؛ مثل هندسة اللغة على نحو يسهم في تطوير تقنيات معالجة اللغة وتذليل العقبات التي قد تعترض تَطوُّرها على الصعيد التقني الرقمي”.
ولأني جاهل - مع الأسف - بالتقنية الحديثة فإني غير قادر على التعليق على ما ورد فيها. على أني أظن أن من وضعوها - وهو العالمون - بمضمونها - لا يريدون تعميم ما أوردده؛ مثل هندسة اللغة، عل كل المناهج الجامعية؛ ليكون شرطاً من شروط الطالب للنجاح في الدراسة الجامعية.
وفي ختام مقالتي، التي عنوانها: “ صوت لمناصرة لغتنا العربية “ أودَّ أن أشير إلى شكري الجزيل لمؤسسة الفكر العربي؛ صوتاً جميلاً داعياً بعبارة جميلة: “ لننهض بلغتنا “. وكنت آمل أن يتضمَّن الإعلان - في مجال التعليم قبل الجامعي بالذات - حَثُّ الدول العربية على عدم السماح لمواطنيها بالالتحاق لمدارس تُدرِّس مناهجها بلغة أجنبية. ذلك أن التحاق أبنائنا وبناتنا بتلك المدرس سيجعل منهم؛ مستقبلاً، أناساً غير قادرين على التعبير عما يريدون التعبير عنه بلغتهم العربية الأم؛ بل سيعبِّرون باللغة الأجنبية التي درسوا ما درسوا بها؛ ابتداء من السنة الأولى الابتدائية. بأن تلك المدارس تدرس مادتي الدين واللغة العربية ليس كافياً للحيلولة دون سيطرة اللغة الأجنبية على الأذهان عند محاولة التعبير عما في النفوس. وَفَّق الله الجميع للسداد.