.. ونحن إذ نحاول أن نفهم، فيجب قبل ذلك أن نعرف: كيف نفهم؟ وذلك أنَّ للأفكار أبوابها، كما أن للبيوت أبوابها.
وفي الذكر الحكيم تبدو مسألة «كيفية الفهم» هي مدخل الفهم، ولذلك يلاحظ أن القرآن الكريم -كثيراً- ما يرشد إلى طريقة التصور الأنسب للقضايا التي هي أصول في باب التشريع والتفكير. ومن ذلك قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) سورة البقرة.
فقد ترى أن مسألة «البر» هنا هي محل النظر، وهي أيضاً أصل من أصول الدين الإسلامي، بل فهمها الفهم الأكمل والأتم يمثل فهم الإسلام كله، والموضوع في هذه الآية يمثل بالنسبة للمسلمين سؤال هوية، وهل يتبع المسلمون غيرهم في قبلتهم بالاتجاه إلى المشرق أو المغرب؟
فكان أن صرف القرآن الكريم النظر عن تفهم البر باعتباره «وسائل» في قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (177) سورة البقرة إلى تفهمه باعتباره مقاصد هي مجامع الدين ومعاقد العقيدة والشريعة والأخلاق في قوله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) سورة البقرة.
فالتوجه إلى القبلة وسيلة، ولهذا يسقط في حال العجز والنسيان، وصلوات النوافل على الدابة في السفر، لذلك صرف الله أنظار المؤمنين إلى ما جاء بعد لكن في قوله سبحانه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) سورة البقرة. ولا يخفى أن هذه المعتقدات والأعمال الجليلة هي أسمى وأكبر مقاصد الدين من الإيمان بالله تعالى وما يتبعه من الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، والجود بالمال في الأصناف المذكورة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، وهو نطاق واسع يشمل تعاملات وعلاقات كثيرة، والصبر في الأحوال الثلاثة المذكورة.
وقد تلاحظ من خلال تأمل خصال البر المذكورة في الآية أنها جمعت ما تصلح به أحوال الإنسان في ذاته، وما تصلح به أوضاعه كجماعة، ففيها إقامة العلاقة بالله تعالى بالإيمان به سبحانه والصلاة له وهما منبع الفضائل الفردية، وفيها إقامة العلاقات الإنسانية بالجود بالمال والوفاء بالعهود، وهاتان الخصلتان: إنفاق المال في أصناف المستحقين، ومراعاة العهود مع أصناف المعاهدين لا يضمنان فقط أن تقوم العلاقات الإنسانية، بل أن تقوم وتشتد وتقوى. ومن وراء ذلك الصبر الذي يحوط هذه الفضائل الفردية والاجتماعية لاسيما في الأحوال الثلاثة المذكورة في الآية، والصبر كما يحتاجه الإنسان الفرد فيحتاجه -أيضاً- الإنسان الأمة، بل قد تكون الأمة وهذا مشاهد عبر التاريخ أحوج إلى الصبر من الإنسان في خاصة نفسه.
وعندئذ قد نفهم بعض الفهم لماذا صرف الله أنظارنا عن التفكير في البر باعتباره توجهاً نحو المشرق أو المغرب إلى التفكير به باعتبار هذه الأصول العقدية والعملية، بل قد ندهش عند تأمل التعبير القرآني الدقيق؟ فإن الله تعالى لم يقل: ولكن البر هو الإيمان بالله واليوم الآخر إلى آخر الأعمال المذكورة في الآية ولكنه سبحانه قال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) سورة البقرة.
فوجه إلى أن نعتقد ونعمل ولم يوجه إلى العقيدة والعمل، وهذه الملاحظة جديرة بالانتباه وهي تكشف لنا خاصة من خصائص هذا الدين في كونه دين العمل لا دين الجدل، ولقد كان ذلك واضحاً لدى سلف هذه الأمة حتى قال عالم أهل الشام أبو عمرو الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل. وهذه الكلمة من هذا الإمام كما أنها تصدر عن فهم عميق لهذا الدين، فهي أيضاً قراءة واعية لسير الحضارة وسنن التاريخ، فمقالة الأوزاعي هذه كما تصدق على الأمة الإسلامية تصدق أيضاً على كل الأمم. ومالك الإمام يقول -أيضاً-: ليس الجدل من الدين بشيء. حتى إنه حادث أمير المؤمنين في ذلك وقال: قلت لأمير المؤمنين فيمن يتكلم في هذه المسائل المعضلة: الكلام فيها يا أمير المؤمنين يورث البغضاء.
وإنما نريد أن نقرر كم كان سلف هذه الأمة يصدرون عن فهم عميق لحقائق هذا الدين، وهو ما جعلهم أقدر على الاجتهاد والنظر في النوازل والواقعات الجديدة. وتفهم هذا الدين على هذا النحو الصحيح هو الذي يكشف عن مقاصده وأصوله، وعكس ذلك سوء فهمه يؤدي إلى الانحراف عنه والابتداع فيه. ومن المعروف في تاريخ المذاهب والفرق أن أوائل البدع وما نشأ عنها من فرق كانت بسبب سوء الفهم للقرآن كما قال ابن تيمية: «وكانت البدع الأولى مثل بدع الخوارج إنما هو من سوء فهمهم للقرآن».
وعلى ذلك فالقضية تثبت طرداً وعكساً في أن قراءة المقولات الأصيلة في الإسلام تبدأ من الفهم الصحيح والمستوعب للقرآن والسنة سواء كان ذلك في المسائل أو الوسائل، وهو الحل الصحيح للمجتمعات المسلمة للخروج من أزماتها وبناء أوطانها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن جرير الطبري وغيره: تضمن الله لمن قرأ القرآن الكريم واتبع ما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) سورة طـه، ولما كان الفهم الصحيح للقرآن الكريم بهذه الأهمية، كان من فقه الصحابة الذي تأخرنا عنه كثيراً، أنهم كانوا يعنون بتبليغ معاني القرآن لمن بعدهم كما يعنون بتبليغ حروفه أو أكثر, وفي ذلك يقول ابن تيمية: «وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني أعظم مما يلغوا حروفه» وبهذا نعرف -ومن الجيد أن نعرفه- أن الصحابة لم يتوقفوا عند تجويد ألفاظ وكلمات القرآن، بل عنوا مع ذلك وأكثر بتجويد حقائقه ومعانيه، وبذلك أدركوا وبعمق حقائق هذا الدين ومقاصده وأصوله التي يدور عليها، وفي سياق ذلك أحسنوا التصرف مع نصوص القرآن والسنة بحملها على أحسن المحامل التي تتفق مع أصول هذا الدين وقواعده، كما جاء عن علي رضي الله عنه عند أحمد وغيره أنه قال: ((إذا حدثتم عن رسول الله حديثاً، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهيا، والذي هو أتقى)) وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً نحو ذلك.
ولن يكون بمقدور الناظر في الشريعة أن يحمل النص على الذي هو أهدى، والذي هو أهيا، والذي هو أتقى ما لم يكن مدركاً لمقاصد هذا الدين، عالماً بأصوله، مطلعاً وحاذقاً بمقولاته الأصيلة، بحيث ينتج عنه فهم للنصوص في مساقها مع تساوقها, وفي ضوء ذلك يقول الشاطبي، مؤكداً أهمية هذا الموضع والموضوع الذي يعتبر نقطة انطلاق لفهم الشريعة في أفقها الواسع ومجالها الرحيب، يقول: «وهذا الموضع كثير الفائدة عظيم النفع، بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة، فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي، فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة، وهذا هو أصل الزيع والضلال في الدين، لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات، ولا توفيق إلا بالله».
وحتى نقرأ المقولات الأصيلة في هذا الدين العظيم، فيجب أن نعرف أن هذا الدين قبل أن يكون رتْباً من الأحكام فهو بالأساس إصلاح للفرد والجماعة والحياة، وتلك الأحكام إنما شرعت لأجل ذلك، وحينئذ سنعرف أن الدين الإسلامي منطق فهم وفكر قبل أن يكون أسلوب سلوك وتصرف، وإن كانت: «مسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة» كما يقول ابن تيمية. ولذلك نجد أن الإسلام عالج الأفهام والتصورات والمعتقدات في مكة قبل أن يشرع الأعمال والأحكام في المدينة. ولأن ما يتعلق بالأفهام له حكم الثبات فلا يجوز فيه النسخ كانت العمومات المكية عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور العارضة، وهي إذاً عمدة في الكليات الشرعية لا ينصرف عنها كما يقول الشاطبي.
وعكس هذه القضية أن الإسلام كما بدأ بإصلاح الأفهام، فإن الابتداع فيه بدأ أيضاً من الأفهام قبل ظهور البدع التي تتعلق بالسلوك، وهذه ملاحظة جديرة بالاهتمام، فكما أن البناء يبدأ من الأفهام، فكذلك الهدم يشرع منها، ولذلك يذكر العلماء: أن البدع التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد يعني ما يتعلق بالسلوك لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف البدع المتعلقة بالاعتقاد أي بالأفهام، فإن أوائلها ظهر في عصر الصحابة والتابعين.
وفي ضمن الفهم الأصيل لهذا الدين، كان الصحابة رضي الله عنهم على وعي تام بحركة الزمن وسنن التاريخ وأسباب الحضارة، ويدل على ذلك اختيارهم التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن البراهين الجزئية على هذا، ما رواه الحاكم بسنده عن ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقته، فنزل عنها، وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟ فقال عمر: أوَّه ! لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنا كنا أذلَّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله.
فهذه الكلمة من عمر رضي الله والتي أصبحت نبراساً من بعده ترويها الأجيال بعد الأجيال، نرى فيها مع وجازتها واختصارها: (الزمن- والسبب- والمآلات) وهي بأسلوبها الذي صكت به تمثل نظرية، يتوفر فيها كل مقومات النظرية من حيث الأركان والشروط والأسباب والموانع، وهي من جهة أخرى تمثل استقراء لحظ فيه عمر رضي الله عنه ما كان حال الناس قبل الإسلام وما كان بعده وأعطى نتيجة ذلك ما يكون في المستقبل، وفائدة الاستقراء كما هو معلوم: اطراد الحكم في جميع الأفراد أو أغلبها.
ونحن -في الحقيقة- في حاجة إلى هذا النوع العالي من التفكير الذي يقوى على (الربط والاستنتاج) وتصميم الأفكار والنظريات، بحيث يسلم من سلبيات (الجزئيات والمعلومات) أما سلبية الجزئيات فضعف القدرة في الربط بينها، وأما سلبية المعلومات فضعف القدرة في الاستنتاج منها ومع أن المعلومة -مثلاً- في حدِّ ذاتها مفيدة إلا أنها إذا وصلت إلى العقل غير المهيأ لها سواء كان هذا العقل فردياً أو جمعياً فإنها إلى الضرر أقرب منها إلى النفع ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83) سورة النساء، فالأمر في هذه الآية لمّا كان يحتاج إلى دقة نظر وهو ما عبر عنه في القرآن بالاستنباط، لم يكن أي عقل قادراً على هذا الاستنباط. كما أنَّ كثرة المعلومات إذا لم يكن العقل قادراً على التنقيح فإنها تغرق صاحبها بحيث لا يقوى على النظر والحكم على حد قول بعضهم: حاول ألا تغرق في المعلومات وأنت تبحث عن المعرفة.
وبعبارة مختصرة فإن الحلَّ الذي ينهج لنا هذا النوع العالي من التفكير هو ما سماه القرآن الكريم بـ»الاعتبار» في قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) سورة الحشر، قال ابن تيمية: قوله فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) تدل على الحكم الشرعي وعلى الكوني من باب أولى. وقد يجوز لنا أن نقول: إن لدينا الكثير ممن يعتبر في الجانب الشرعي، لكننا نفتقد للكثير من المعتبرين في الجانب الكوني، حتى أصبحنا في عالمنا الإسلامي نكرر أخطاءنا ولا تعتبر بتجارب أسلافنا مثل ما عبر عن ذلك الكاتب الإنجليزي «ألدوس هكسلي» بشكل ساخر حين قال: أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من التاريخ.
وإننا إذ نقرأ هذا النوع العالي من التفكير، والنظر الكلي والمآلي الذي تتسق فيه الحوادث والواقعات، بل وتختصر فيه الأزمان ما اصطلح على تسميته بالماضي والحاضر والمستقبل، فمن المفيد أن نضعه مرآة لواقع المجتمعات المسلمة المعاصرة، لندرك مقدار المطلوب من الفكر الإصلاحي، فإنه لا يخفى أن كثيراً من الفكر الدارج في الكتابات المعاصرة لا يرقى للمستوى العميق للأفكار، ولا يتغيا النظريات التي تصنع الفرق، فتلك الكتابات أشبه ما تكون بمناقشات لغتها غير مفهومة المعنى، أو كما جاء عن ذلك الأعرابي الذي حضر مجلس الأخفش فلم يفهم شيئاً، فقال الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا.
وقد انعكس هذا الفكر الدارج على سطح اللغة، بحيث لم يعد لها ذلك الوهج الذي كنا نعرفه في لغة العرب، والسبب أنها لا تحمل فكراً يرفع من مستواها الدلالي. وثمة طرد وعكس ما بين قوة اللغة وجمالها وعمق الفكر وأصالته، فكلما اشتد الفكر ونضج كانت اللغة آسرة، والعكس صحيح أيضاً، ولذلك فـ»الأفكار العليا لا بُدَّ لها من لغة عليا» كما يقول المؤلف المسرحي اليوناني القديم «اريستوفان» وابن تيمية يقول: المادة إذا كانت مادة صحيحة أمكن تصويرها بأنواع من الصور.. كالذهب الصحيح.
وليس جلداً للذات إذا قلنا إننا نفتقد في كثير من أطروحاتنا للأصالة الفكرية، ذلك أن الأصالة الفكرية متى ما توفرت في العقل الجمعي، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تتخلف عنها الريادة الحضارية، وغني عن القول: إننا في زمن لسنا من رواد الحضارة. ولعلَّ مثالاً واحداً يوضح حاجتنا لأن نقرأ هذه الأفكار الأصلية، وهذه المقولات الأساس، لاسيما أنه قد أصبح أساساً لكل خطاب، ومحوراً في كل مؤتمر، ووجد صداه العالمي في كل مضمار.
هذا المثال هو: السلام الذي تنشده البشرية منذ آماد، خاصة بعد ما جربت الحروب الكونية التي أهلكت الملايين من البشر في أيام، فكيف لو تحرجت البشرية مرة أخرى إلى حرب شاملة وقد توفر لها من أساليب الدمار أضعاف ما كان موجوداً منذ عقود قليلة.
من هنا كان الحديث عن السلام والتنظير له، وإيجاد الوسائل التي تضمن تحقيقه ليس مشروعاً فحسب، بل وضرورة تقضي بها العقول السليمة، لكن ليس هذا حديثنا, إنما حديثنا ونحن نتطلع إلى قراءة الأفكار الأصيلة في ثقافتنا، والمقولات الأساس في الدين الإسلامي، هو أن السلام له مضمون واسع، بحيث إن السلام وحده في الإسلام يضمن تحقيق عدد من القيم التي يتمناها البشر، لأنه هو نفسه يتكوَّن على مجموعة من المفاهيم المتكاملة، والإسلام بذلك يحقق ومن خلال نظرته للسلام الآمال التي ما زالت بعيدة المنال عن الإنسانية في واقعها المعاصر. والتي تكفل الأمن والعدل والرخاء.
والإشكال الذي جعل السلام في الإسلام لا يقرأ بتمامه، ولا يحاط بمشمول مفهومه عند كثير ممن تناول هذا الموضوع، هو ما تقدم قبل أن الكثير لا يحسن قراءة الأفكار الأصيلة والمقولات الأساس، وذلك مظهر من مظاهر الوهن الفكري والثقافي. وسنكشف بحسب المستطاع عن ناحيتين من نواحي الضعف في تناول «السلام» وهو هنا أنموذج لكثير من الأفكار والقضايا، ومن خلال هاتين الناحيتين سنتعرف على كثير من مضامين السلام في الإسلام.
فالناحية الأولى: ما هو السلام؟ وكيف ينظر إليه؟ إن الجواب عن السؤال الأول، يكشف عن الخلل في التصور عن ماهية الأشياء وهي ناحية معرفية عميقة، إذ يرى الكثير من الناس في السلام معناه البسيط لا المركَّب ومعناه الانكفائي أو السلبي لا المعنى الإيجابي، فإنه لا يخفى أن المتبادر إلى الأذهان عند ذكر كلمة السلام هو أنه ضد الحرب ليس إلا، وهذا المتبادر إلى الذهن هو الذي عنيناه بالمعنى البسيط والانكفائي والسلبي، بيد أننا إذا أردنا أن ندخل مدخلاً صحيحاً إلى معنى السلام في الإسلام، فيجب أن نفهمه في معناه المركب الذي يتكون من مجموعة من القيم والأفكار التي تتماسك في فكرة الإصلاح. وإذاً: فالسلام في الإسلام له فكرة وله قيم وله امتداد أي زمان، فمن خلال هذه المكونات الثلاث يتكون المفهوم العام عن السلام، ففكرة السلام الإصلاح، وقيمه: العدل والإحسان، وامتداده أي زمانه، الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) سورة مريم، ومن المشروع أن يسأل: كيف يكون الإصلاح فكرة السلام؟ وما الرابط بين العدل والإحسان وبين السلام؟ وهل هذا إلا عدول عن فكرة قيمة صحيحة إلى أفكار أخرى لها قيمتها واعتبارها لكنها ليست بذات المضمون؟ وهذا السؤال في الحقيقة وأمثاله يشرع لنا أن نقرأ الأشياء من أفكار وغيرها في صورها المكبرة بحيث تتبين الماهيات والعلاقات وهذا له أثره في صحة التصور ومن ثم صحة الحكم. يقول الجرجاني في دلائل الإعجاز متحدثاً عن أنه لا يشفي العلة عند الكشف عن ماهية شيء «ما» حتى تتغلغل في مكامنه وتنظر إليه من كل زواياه، يقول «واعلم أنك لا تشفي العلة ولا تنتهي إلى ثَلَج اليقين، حتى تتجاوز حدَّ العلم بالشيء مجملاً، إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه، والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف مَنْبِته، ومجرى عروق الشجر الذي هو منه». وما يذكره الجرجاني هنا عن التغلغل في المكامن والنظر في الزوايا وتتبع الماء حتى المنبع، والبحث عن جوهر العود حتى عروق الشجر، هو ما نحاوله في البحث عن جوهر السلام ومنبعه وعروقه، ولم أجد فكرة تصلح أن تكون منبعاً للسلام على مستوى الفرد والجماعة والعلاقات ما بين الأمم والدول مثل فكرة الإصلاح، ذلك أن مضمون الإسلام الذي تجتمععليه كل مضامينه هو الإصلاح كما في قوله تعالى إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ (88) سورة هود، فالإصلاح المتجدد يضمن السلام المستمر، والعدل والإحسان هما مثل كفتي الميزان يعدلان من فكرة الإصلاح حتى لا تتجاوز أو تقصر، وحتى لا تتغول أو تموت.
وعندئذ قد نجد من المناسب أن ننتقل إلى السؤال الآخر، وهو كيف ينظر إلى السلام؟ وجوابه يكشف لنا أيضاً عن ناحية أخرى من نواحي الخلل في الفهم والتفكير الذي له أثره في تقلقلنا الحضاري، وبعدنا عن الريادة. إن السلام ينظر إليه عند الكثير على أنه فكرة ذرائعية يتوصل بها إلى غاية أخرى قد تكون السيطرة السياسية أو التجارية أو غير ذلك وهذا الفهم الذرائعي للسلام شائع في العالم كله بحسب ما ذكر رينوفان ودوروزيل في كتابهما مدخل إلى تاريخ العلاقات الدولية، حيث لاحظا أن جميع الانشغالات بالسلام لم تكن إلا أيديولوجيات مصلحية.
بينما السلام في الإسلام ولأن له مفهوماً واسعاً يعتمد الإصلاح فكرة مشروطة بالعدل والإحسان فإنه يرتقي عن كونه وسيلة وذريعة إلى كونه مقصداً وغاية، وفهم السلام على هذا النحو أي كونه مقصداً وغاية له أثره الكبير ليس في مناهج التفكير فحسب بل حتى في طبائع النفوس. والتمييز بين المقاصد والوسائل في الدين الإسلامي له طرائقه التي استقر عليها علماء الشريعة وأهمها: «استقراء الشريعة في تصرفاتها»، ولا ريب أن السلام بما تقرر له من مضمون في الدين الإسلامي هو من مقاصد هذا الدين الحنيف، وعليه يستقرئ الناظر في الكتاب والسنة نصوصاً كثيرة تفيده هذه الرتبة المقاصدية، ومن هنا عدَّ أحد الدارسين في مفهوم السلام في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف السلام: «أحد مفاتيح أصول هذا الدين» ونؤكد ذلك بأن المقصد العام من التشريع - كما يقول ابن عاشور «حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه» ثم ساق آيات كثيرة تدلل على ما ذكر ومنها قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) سورة القصص، قال معلقاً على هذه الآية: «فعلمنا أن الصفات التي أجريت على فرعون كلها من الفساد، وأن ذلك مذموم، وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بني إسرائيل من فساد فرعون، فعلمنا أن المراد من الفساد غير الكفر، وإنما فساد العمل في الأرض لأن بني إسرائيل لم يتبعوا فرعون في كفره». وقال تعالى عن شريعة شعيب لأهل مدين: وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا (85) سورة الأعراف، وقال الله تعالى مخاطباً هذه الأمة: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا (56) سورة الأعراف، وقال: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) سورة البقرة، وقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (22-23) سورة محمد، فهذه أدلة كلية صيحة دلت على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، وذلك في تصاريف أعمال الناس» ثم قال بعد ذلك «ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة كما قد يتوهم، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية، فإن قوله تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) سورة البقرة، أنبأنا بأن الفساد المحذر منه هو إفساد موجودات هذا العالم، وأن الذي أوجد هذا العالم وأوجد قانون بقائه لا يُظنُّ فعلُه ذلك عبثاً، وهو يقول: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا (115) سورة المؤمنون.
إذاً: فالانتقال بالنظر إلى السلام من كونه ذريعة إلى كونه غاية، ومن كونه وسيلة إلى كونه مقصداً، ضرورة مفاهيمية تُعدِّل من وضعنا الحضاري، وتحقق العدل في العلاقات الإنسانية.
وهذه الكلمات الأخيرة تفتح لنا الحديث عن الناحية الأخرى التي أومأنا إليها سابقاً، وهي أن السلام ينظر إليه على أنه قضية سياسة لا قضية حضارة، وهذا خطأ آخر لا يعود على البشرية بخير، فإن العالم متى نظر إلى السلام بهذا المنظار فإنه أولاً: يضيق جداً من مساحة مفهوم السلام، وهو ثانياً: ينقله من صيغة النظرية التي تتميز بالتكامل عمقا وشمولاً إلى صيغة الحدث المرتهن بمصالح محدودة.
أما في الفهم الإسلامي للسلام فهو ينظر إليه على أنه قضية حضارة بالأصل وقد يكون قضية سياسة بالعرض، ومعنى كونه قضية حضارة، أنه أولاً ينبع من المفهوم العميق للإسلام بحسب ما تقدم، ولذلك فالتعبير الدارج أن السلام يلتقي مع الإسلام الأصح منه: أن السلام ينبع من الإسلام. وإذاً فهو أي: السلام مفهوم أو فكرة قبل أن يكون حدثاً أو موقفاً، وهو بذلك من المبادئ الأساس التي تكوِّن الشخصية المسلمة، تلك الشخصية التي لها تصور واضح عن النفس والإنسان والكون، وهذا التصور المتكامل هو الذي يكون حضارة، لأن الحضارة لا يمكن أن تسمى بهذا الاسم ما لم يكن لها تصور وعمل في هذه المفردات الثلاث (النفس والإنسان والكون).
والواقع أن السلام له شبكته الاتصالية المؤثرة والعميقة جداً مع هذه الركائز الثلاث، وحتى نفهم ذلك بوضوح فيمكن لنا أن نقرأ علاقة السلام بالنفس، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون.
أما علاقته بالنفس فشيء عجيب جداً، وهو يطلعك على شيء من أسرار النفس في تلاطم أمواجها واضطراب أحوالها، وإذا كان المفكرون والسياسيون والمصلحون يعلنون دائما وعلى منابر شتى حاجة العالم الإنساني إلى السلام العادل بين شعوبه وأممه، فإن هذه الدعوة تبدو أكثر أهمية لو كان النداء لتحقيق السلام ما بين الناس وأنفسهم.
بل إننا نستطيع أن نقول: إن سلام الإنسان مع نفسه يجعله يحيى بسلام مع الناس، ويتواءم بسلام مع الكون، أي إن السلام مع النفس هو الأساس لكل سلام وهو ما يمكن أن نسميه بـ»السلام النفسي».
وبشيء من محاولة مطالعة أسرار النفس فإن النفس بدون سلام تبدو مضطربة جداً، ويتطور هذا الاضطراب إلى أمراض نفسية متعددة أهمها الاكتئاب، وهو مرض شائع في عالم اليوم، وهذا الاكتئاب قد يتطور إلى حالة انتحار، وقد نقرأ تحليلاً دقيقاً ومتعدد الجوانب لعلماء النفس عن هذه الحالات النفسية التي غادرت السلام، أو السلام غادرها، لكن لوحة زيتية رسمها الفنان الهولندي فينسنت فان كوخ، قد تكون أكثر تعبيراً، كيف وهو نفسه يمر بحالة اكتئاب شديدة فيرسم إنساناً وقد غطى وجهه بكلتا يديه، إنه لا يريد الحياة ولا يريد أن ينظر إلى المستقبل، واللوحة معبرة عن يأس خانق وإحباط شديد، ولذلك انتحر هذا الفنان بعد أيام من رسمه لهذه اللوحة والتي عرفت باسم: «عند بوابة الخلود».
والسلام مع النفس لا يعني - فقط - هدوءها الذي يقابل الاضطراب، لكنه يعني أيضاً انسجامها الذي يقابل الاختلال، والحقيقة أن الاختلال هو الذي يؤدي إلى الاضطراب والاختلال ناشئ عن عدم تكافؤ قوى النفس والذي معناه أن جانباً من كيان النفس قد تزلزل أو هوى، وقد يكون ذلك لسبب ما يختلف ما بين شخص وآخر, إلا أن السبب الرئيس الذي تجتمع عليها جميع الأسباب هو أن النفس ابتعدت عن فطرتها في ناحية أو في أكثر من ناحية. وحينئذ فنقول معتقدين: إن النفس لن ترجع إلى الاطمئنان الذي يجمع ما بين الهدوء والانسجام إلا بالإيمان وهو الذي يرفرف بسببه السلام على القلب، و»الإيمان وحده هو أكبر علوم الحياة، يبصرك إذا عميت في الحادثة، ويهديك إذا ضللت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكون وإياها على المصيبة» كما يقول الرافعي. ولاحظ هذا الكلمة الأخيرة: «ويجعلك صديق نفسك تكون وإياها على المصيبة». فحالة الصداقة هذه مع النفس في كلمة الرافعي هي حالة السلام التي نُنظِّر لها في هذه الكتابة.
فالنفس الإنسانية أحوج ما تكون إلى سلام يزرع الاطمئنان في القلب، فلا يحزن على الماضي ولا يخاف من المستقبل، ولم أجد كلمة تعبر عن هذا السلام النفسي العظيم والشامل مثل قوله تعالى عن يحيى عليه السلام: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) سورة مريم، ومثله ما جاء عن عيسى عليه السلام. فالسلام إذاً يصلح العلاقة مع النفس. وهو أيضاً يصلح علاقة الإنسان بالإنسان، وقد مرَّ توّاً أن النفس لن تكون في سلام إلا بالإيمان، أما الإنسان فيكون في سلام مع الإنسان بالعدل، وبذلك تصلح العلاقات الإنسانية، ويدل عليه قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين (8) سورة الممتحنة، وكما أنه متقرر في الإسلام أن العدل يصلح من العلاقات الإنسانية، فإن محترفي السياسة يقررونه أيضاً من واقع عملهم، ومن شواهده ما قاله داويت أيزنهاور: السلام والعدل وجهان لعمله واحدة. يعني أنه لا يمكن أن يتحقق سلام بلا عدل. والسلام وإن اعتمد العدل أساساً لعلاقة الإنسان بالإنسان فإنه لا يقف عند هذا الحد بل يتطور ويطور علاقات أخرى من أهمها وأبرزها علاقتان: التعليم، والإغاثة، وهاتان العلاقتان هما من صميم الدين الإسلامي الذي أمر بـ(اقرأ) وجعل في كل كبد رطبة أجر. والمتحدثون عن السلام -ونحن المسلمين يجب أن نكون من أهم المتحدثين لأن الإسلام يأمر ويرشد إلى القيم النبيلة التي تصلح من حال البشر- عندما يتحدثون فإنهم يرون أن السلام إذا تحقق ففي أجواءه يمكن أن يتعلم أكبر قدر من البشر ويطعم أكبر قدر من البشر أيضاً.
والتعليم -بلا شك- يحسن من مستوى البشر المادي، لكنه -أيضاً وهذا أهم- يحسن من مستواهم العقلي ويجعلهم أقدر على مناقشة الأفكار وقبول الصحيح منها «وعلامة العقل المتعلم قدرته على تداول الفكرة دون أن يتقبلها» كما يقول آرسطو و»السيئات منشؤها الجهل والظلم» كما يقول ابن تيمية. وإذا كان التعلم يحسن من مستوى العلاقات الإنسانية فإن الإغاثة -أيضاً- سواء كانت طبية أو غذائية أو غيرهما لها نفس الأثر وربما أكثر. وفي حديث نبوي كريم جاء التنويه بإطعام الطعام وقرن به إفشاء السلام، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما سأل أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» يقول ابن تيمية «قل أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما» والتناسب بين هاتين الجملتين واضح فبإطعام الطعام وإفشاء السلام تكسب ودَّ من أطعمت ومن سلمت عليه، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
وعموماً فالإغاثة لها قدر عالٍ في الإسلام، وهي من رسائل السلام. والإنسان بفطرته يحب إغاثة الملهوفين جياع أو مرضى أو غيرهم من أصحاب الحاجات، حتى قال أبو محمد عبدالقادر الجيلاني الحنبلي: فتشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع.
وعالم اليوم -لاسيما المساكين منهم- في حاجة ماسة إلى أن يتعلم ويتغذى ويصح.
وبقي أن نذكر كيف أن السلام يصلح علاقة الإنسان بالكون. إن القرآن الكريم كثيراً ما يدلنا إلى التفكر في الكون وآياته، لكن المدى أبعد من ذلك حين يخبرنا أنه -أي الكون- مسخر لنا وفي ذلك تحفيز إلى أن نكتشف هذه الأسرار ونعمل على هذا التسخير لكن في ضوء رسالة الإصلاح لا الإفساد فقد قال تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا (56) سورة الأعراف، ولأن حلقات السلام بعضها يتواصل مع بعض فالسلام مع النفس يوصل إلى السلام مع الإنسان، فإنه أي السلام مع الإنسان يوصل إلى السلام مع الكون من خلال المحافظة على البيئة سواء كان ذلك بمحاربة تلوث الهواء أو التصحر أو تلوث المياه أو كل أشكال الإضرار بالبيئة أو الإضرار بالحياة الحيوانية والنباتية، وذلك جزء من مضامين السلام في الإسلام. «ولن يعثر المرء على السلام إلا عندما يوسع من دائرة تعاطفه لتشمل جميع الكائنات الحية «كما يقول ألبرت شفايتزر.
وإذا كان السلام مع النفس لا يكون إلا بالإيمان وسلام الإنسان مع الإنسان لا يكون إلا بالعدل فإن السلام مع الكون لن يكون إلا بالعلم المرتبط بالضمير على حد قول «فران سوارا بليه»: إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس. والحقيقة: أنه لا يؤدي إلى خراب النفس فقط ولكنه يؤدي أيضاً إلى خراب العالم، وهذا يدلك على مدى ارتباط السلام النفسي مع السلام الكوني، وعمارة الكون لا تكون بالعلم وحده، فلابد معه من أخلاق تؤطر بحثه فيما ينفع الكون والحياة، ولذلك كانت الأمة الوسط -كما يقول ابن تيمية- لهم العلم والرحمة كما أخبر سبحانه عن نفسه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (7) سورة غافر.
- الأمين العام لهيئة كبار العلماء.