تطالعنا الأخبار كل يوم بأخبار عن تردّي الاقتصاد الأمريكي، ومن أبرز الأمور في هذه الأخبار هو مدى الانقسام بين أثريائهم وفقرائهم، وهو فرق هائل مريع لم ترَ البشرية مثله، فهناك شركات وعائلات معدودة وهي التي تملك غالبية الثروة في أمريكا كلها، وهذا التفاوت ذكرني بأحد الكتب الرائعة وهو كتاب «دروس من التاريخ» للكاتبين ويل دورانت وزوجته أريل، وهما مؤرّخان أمريكيان لهما الكثير من الكتب، أشهرها كتاب «قصة الحضارة» وهو كتاب هائل كتباه على مدى 40 عاماً يحوي 4 ملايين كلمة موزعة على 11 مجلداً و10 آلاف صفحة، هدفا منه إلى كتابة تاريخ الغرب كاملاً، وأما كتاب «دروس من التاريخ» فهو فعلياً كُتيِّب وهو تلخيص لكتابهم الأكبر، وضعوه موزعاً على عدة فصول أو «دروس»، الذي يهمنا منها هنا هو الدرس الثامن بعنوان «التاريخ وعلم الاقتصاد»، وفيه يقول المؤرِّخان إن الأحداث التاريخية ليست دائماً كما تبدو، فالمال جزء أساسي من الأحداث، ويضربان مثالاً لذلك الحروب الصليبية والتي كان هدفها الاستيلاء على طرق التجارة في الشرق -حسب كلامهما-، وكذلك مثل حروب الروم ضد فارس. الثورة الفرنسية ما أتت بسبب رومانسيات روسو ولا أدبيّات فولتير وإنما لأن الطبقة الوسطى تحسنت مادياً وصارت تحتاج قوانين أكثر حرية لتجارتها، ورغِبت في القيادة السياسية والقبول الاجتماعي. إلا أن هناك عوامل أخرى بالغة الأهمية تُحمّس الناس وليس المال فقط، وكارل ماركس لم يقدّر هذا حق قدره عندما تكلم عن دور المال الأساسي في كل أحداث التاريخ، فهذا لا يفسر الحماسة الدينية لدى جيوش الأسبان أو الحماسة القومية لدى ألمان هتلر وكاميكازي اليابان، فهناك أحداث يكون فيها هدف القادة مادياً ولكن يحمّسون العامة بالدين أو الوطنية وهذه الحماسة هي التي تصنع الأحداث الكبيرة.
يفيدنا التاريخ أن من يديرون البشر لا يديرون إلا بشراً يديرون أشياء، بينما من يديرون المال يديرون كل شيء، لهذا البنوك هي التي تتربع على هرم الاقتصاد، فهم الذين يتحكمون برؤوس المال ويديرونها، يتحكمون بالقروض والتجارة، ويخاطرون كبيراً ليحصلوا على عوائد أكبر، وإذا التفتنا لأمثلة من التاريخ فسنرى عائلة ميديتشي في فلورنس الإيطالية (القرن الرابع عشر) وعائلة فوجر في أوغسبيرغ الألمانية (القرن السادس عشر) وروثتشايلد اليهودية في باريس ولندن (القرن التاسع عشر) ومورغان الأمريكية في نيويورك (القرن العشرين) فإننا نرى الصرافين وقد جلسوا مع الحكومات وموّلوا الحروب والباباوات وأشعلوا الثورات.
قد يقول قائل: «كيف هذا؟ كيف يمكن لعائلات وأفراد محدودين أن يتحكموا بثروات تلك الشعوب الأوروبية سابقاً أو الأمريكية اليوم؟»، ويجيب المؤرّخان أن القدرات العملية تختلف من شخص لآخر، وهي لا تجتمع إلا في نخبة قليلة وهذه النخبة هي التي يتركز ويجتمع لديها معظم المال، وهذا دائماً يحدث في التاريخ. درجة الاختلاف هي التي تتغير حسب القوانين: إذا كان النظام قمعياً فهذا يخفف التباين بين الأغنياء والفقراء، بينما إذا زادت الحرية كالديمقراطية مثلاً زاد التفاوت بينهما، ولهذا فإن الفَرق بين أغنياء وفقراء أمريكا فاحش وهو الآن - أي وقت نَشْر الكتاب عام 1968م - أشد من أي وقت آخر في التاريخ منذ عصر روما عندما حكم الأغنياء الناس، وقد كان هذا الفارق بين الأمريكان أقل قبل الاستقلال عام 1776م، ويختم الكاتبان هذا الفصل بالقول إن تَركُّز الثروة شيء طبيعي وحتمي، وإنه جزء من الطبيعة البشرية، ورغم هذا أقول: ماذا كان سيقول المؤرّخان لو رأيا حال أمريكا اليوم والفرق الخرافي بين الفقراء والأغنياء؟