هي الحياة دائما في تبدل وتغير واضطراب، لا تستقر على حال البتة، يفرح فيها الإنسان ويحزن، يضحك ويبكي، يسعد ويشقى، يحب ويكره، تدور به الأيام في رحلة بين الأضداد، وتدور عليه الدوائر، يقول الإمام الشافعي:
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر
والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
ومن الشواهد على تقلب الأحوال وتبدلها التي مازالت حية في ذاكرة التاريخ، تتوارثها الأجيال وتتذكرها، حالة المسلمين بعد ضياع الأندلس، حيث وصف هذه الحال وعبر عنها أبو البقاء الرندي بقصيدة فيها الكثير من الألم والحكم والعبر يقول:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
ولا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
لا ريب أن هذا التنوع والتبدل والتقلب يعد من أعظم أسرار متعة الحياة وجمالها، ولا ريب أن الرتابة في الحياة تفضي إلى الملل والسأم، بل تفضي إلى تبلد الإحساس، وفقدان الحماسة إلى ما هو أفضل، حيث يغلب على الناس استمراء الرضا بالواقع والتكيف معه رغم سلبياته وأوجه القصور فيه، بينما التجديد يهيئ أجواء من الحيوية والمتعة، بل يهيئ إلى المزيد من التطلع والترقب إلى ما هو أفضل، حيث تغلب وتسيطر على النفوس الرغبة في الاستزادة من التطوير والتحسين والإصلاح.
ومن مسلمات معايشة الواقع ودروسه، أنه طالما أن هناك متطلبات واحتياجات، فلابد من جهد وحركة لتلبية هذه المتطلبات والاحتياجات، لكن مهما كانت درجة الإخلاص في الجهد، ومهما بلغ مستوى الحماسة في الحركة، فلن يبلغا مهما كانت الأحوال تحقيق الآمال المنشودة ولو بحدودها الدنيا، فالنقص من طبيعة البشر، والآمال لا حدود لها، تتجدد وتتبدل، هذا عدا عن تقلب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنوع المتغيرات المتلاحقة والمستجدات التي تفرض نفسها على سلم أولويات الإشباع، كل هذا يجعل تجسير الفجوات بين المتطلبات والجهود صعب، وقد يتعذر أن يصل إلى حدود الرضا، ومع هذا لابد من جهد وعزم وحركة لا تتثاءب أبدا، وأن يكون هذا كله في الاتجاه الصحيح نحو بلوغ النجاحات المخطط لها.
إن اتساع الفجوة بين المتطلبات والآمال من جهة، وبين الجهود المبذولة من جهة أخرى، يعد بمثابة المحضن الذي تنمو فيه الأفكار المضطربة، والمناخات التي تتوالد فيها محفزات التململ والسخط، ومن هنا تبدأ مدخلات الاضطراب الاجتماعي، وتبدأ ملامح الفتن تطل برؤوسها، وسرعان ما تترعرع وتنمو وتتسع دوائرها، وهذا ما يبحث عنه المتربصون سوءا ويتطلعون إليه، حيث يحرضون المستضعفين والمهمشين والمستبعدين والمنسيين، بل يدفعون بهم وبأتباعهم من العامة مستغلين هذه المناخات لإثارة الفوضى والعصيان والتمرد، ومع توالي الأيام تزداد حدة التوتر، وتبدأ قائمة المطالب تتشكل، وترتفع الأصوات، ويطلق العنان لأيدي العابثين والمفسدين، للاستفزاز والتخريب والتدمير.
في هذه الأجواء المضطربة، تتجلى قيمة الحكمة والحنكة في تفهم الأوضاع وإدارتها، ومن استقراء الأزمات والاضطرابات التي مرت ببعض البلدان العربية، يتبين أن الحكمة والحنكة غابت تماما عن تصريف الأمور وإدارتها، وهذا ما يتجلى بوضوح في سوريا حيث غلبت شهوت المكاسب والاستئثار، فأعمت العيون، وغيبت العقول، عن معرفة الواقع وإدراك المآلات الحتمية التي انتهت إليها الأوضاع حكما هو مشاهد حاليا.
فالذين عميت بصائرهم وعملوا على الاحتفاظ بكل شيء مع سعي ضيق محدود لتقليل الخسائر، خسروا كل شيء، بل خرجوا من السلطة يجرون أذيال الخيبة والذل، والشواهد أوضح من أن تذكر، بينما الذين فتح الله على بصائرهم، ووضعوا نصب أعينهم الفوز، استطاعوا تجاوز الأزمات وبقوا يقودون دفة الحكم وهم مطمئنون آمنون.
دروس بليغة فهل من معتبر؟