للكاتب كونراد زايس كتاب كبير الحجم عظيم الفائدة عن “الصين عودة قوة عالمية”؛ فالصين تضم خُمس سكان المعمورة، وتُعتبر اليوم أقوى قوة اقتصادية في العالم؛ والقيادة الصينية الجديدة اليوم عليها أن تمارس عملية موازنة صعبة محفوفة بالمخاطر بين
إصلاحات اقتصاد السوق والمحافظة على الاستقرار الاجتماعي، إنها تجلس في الواقع على برميل من البارود، إلا أن ثورة جماهيرية بهذا الحجم غير واردة في الوقت الحاضر على الإطلاق، فمظاهرات العمال عفوية وبلا قيادة، وتركز عادة على المشكلات الآنية المباشرة للعمال، مثل عدم دفع الأجور أو التسريح من العمل.. علماً بأن كل مجموعة من هذه المجموعات تتظاهر وحدها. ولا وجود لمنظمة تنظم إضراباً عاماً في المدينة بأسرها، أو في مقاطعة كاملة. ومن أزمة تيانانمين عام 1989 استخلص الحزب والحكومة الكثير من العِبر والنتائج: التدخل على الفور وبكل عزم وتصميم لقمع أي مظاهرة تهدد بالاتساع.
ومن ناحية أخرى نرى أن الحكومة تعمل كل ما بوسعها من أجل تحقيق نظام حديث للتأمينات الاجتماعية في أسرع وقت ممكن. وإلى أن يصبح هذا النظام قادراً على تأدية وظائفه تحاول الحكومة تأمين مقومات المعيشة اللازمة للعاطلين عن العمل في المدن. لكن هذه المعونات تقتصر على سكان المدن من العمال المسجلين رسمياً، أما ملايين العمال المتجولين الباحثين عن العمل في المدن والقادمين من الأرياف، وكذلك العمال في شركات القرى والبلدات، فيبقون دون أي ضمانات اجتماعية مهما كانت، على الرغم من أنهم يشكلون غالبية الشعب.
مع هذا فمن يريد النظر بإمعان إلى مشكلات الصين الصعبة يصل إلى نتيجة مفادها أن الأمور لن تبقى على حالتها الراهنة مدة طويلة من الزمن، وكيف أن الصين ستقع فريسة مشكلاتها؟ إن العديد من الخبراء في شؤون الصين متشائمون في الواقع، ولم يغير هؤلاء طبيعتهم التشاؤمية منذ عشرين عاماً، منذ بداية إصلاحات دينج. لقد عرفت الصين كيف ترد على هؤلاء المتشائمين بما أفلحت بإنجازه حتى الآن.
إن المشكلات الجبارة تواجهها قوى مضادة جبارة أيضاً: منذ عهد دينج والصين تملك قيادة كفؤة للغاية، وهي تعي تماماً حجم المشكلات الاجتماعية التي تعيشها البلاد. وهي كما يرى الكاتب متحدة وراء الهدف المتمثل في تحقيق اقتصاد حر منتظم في عمله حتى عام 2010. علماً بأن الأفراد اللازمين لذلك يجري إعدادهم منذ فترة طويلة، الذين يأتون من جامعات النخبة في الصين ومن جامعات النخبة في الغرب. نشاهد اليوم في الوزارات والشركات الكبيرة التابعة للدولة جيلاً من خريجي الجامعات الأمريكية يحل محل الجيل القديم الذي كان قد تعلَّم في جامعات الاتحاد السوفييتي.
وأهم عنصر تمثله الصين هو شعبها الذي يتكون من الشباب؛ إن ثلث السكان، البالغ عددهم 1.27 مليار صيني، أعمارهم تحت العشرين عاماً، ثم إنهم أناس يقبلون على التعلُّم بكل طموح، إلى جانب استعدادهم للعمل المتواصل و”تذوق المرارة” دون الاستسلام. إن هؤلاء هم الأناس الذين حققوا الأعجوبة الاقتصادية في الصين.
في الأول من نيسان/ إبريل 2001 اصطدمت طائرة مقاتلة صينية داخل الأجواء الدولية فوق بحر الصين الجنوبي بطائرة تجسس أمريكية، وتمكنت الطائرة الأمريكية من الهبوط بسلام بمطار هينان الصيني، في حين سقطت الطائرة المقاتلة الصينية في البحر. جاء هذا الحدث كالرعد الذي هز المسرح السياسي الدولي الجديد، وإذا كانت السياسة الدولية قد اتسمت خلال النصف الثاني من القرن العشرين بالحرب الباردة التي دارت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي فإن المنافسة ألقت بظلالها اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، ويكفي الرجوع إلى الحملة الانتخابية بين الرئيس أوباما ورومني لتمثل ذلك.
فمن ناحية تريد الصين بسط نفوذها على بحر الصين الجنوبي، الذي يُعتبر أحد أهم الممرات الملاحة البحرية في العالم واعتباره بحراً خاصاً بها، بعد أن كانت قد حسمت أمر جزر باراسل المتنازع عليها مع فيتنام بالقوة في عام 1944. ولكن كيف ستتصرف الصين في عام 2020 من ناحية أخرى عندما تعود لتصبح “غنية وقوية”؟ فهل ستعود إلى تقاليد آلاف السنين التي كانت تتميز بها مملكة الوسط، فتطلب من جميع شعوب آسيا، لا بل من جميع الشعوب الأخرى الاعتراف بالسلطة العليا للإمبراطور؟ أم هل ستكون الصين الجديدة مستعدة لمعاملة جيرانها في شرق آسيا بالحسنى والتعامل معهم بوصفهم شركاء متساوين؟ ثم إن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن مكانتها في شرق آسيا مهددة من قِبل الصين الناهضة. وبالفعل فإن الصين تطالب صراحة بإطلاق يدها في تلك المنطقة؛ لذا تراها تنتقد الوجود العسكري الأمريكي، وترى أن دور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة لحفظ النظام بالمنطقة قد “أكل الدهر عليه وشرب تاريخياً”. وفي الكونغرس الأمريكي تشكل حلف مناوئ للصين يحظى بتأييد الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء.
وفي هذا الصدد فإن الولايات المتحدة الأمريكية ذات القوة المهيمنة والصين الصاعدة ليستا غريمتين متنازعتين فحسب، بل ترتبطان معاً في الوقت نفسه داخل شبكة واحدة من المصالح الاقتصادية المشتركة؛ حيث ترسل الصين ثلث صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعم في تطلعاتها نحو التحديث والتنمية من قِبل الاستثمارات الأمريكية الجبارة؛ لذا فإن تداعي الصادرات وتوقف الاستثمارات سيدخلان الصين في أزمة اقتصادية، وإن كان هذا سيؤثر في الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة نفسها. وعلى الرغم من أن النقابيين يتذمرون من العجز الكبير في ميزان التعامل التجاري مع الصين فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تخسر نتيجة الصادرات الصينية - على عكس الاستيراد من اليابان - أي فرص عمل؛ إذ تتكون الصادرات الصينية من منتجات تتطلب أيدي عاملة مكثفة، وإن لم تأت من الصين فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستضطر إلى استيرادها من الدول الأخرى ذات الأجور المنخفضة. وفي المقابل فإن المزارعين الأمريكيين وشركة بوينغ لصنع الطائرات يعتمدون على الصادرات إلى الصين، وتعتمد صناعة الحواسيب الأمريكية على القطع التي تصدرها مصانع الأجزاء الإلكترونية في الصين. ثم إن الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية لها مصلحة حيوية في استثماراتها في الصين؛ لأن هذه الاستثمارات ستمكنها من المساهمة في معدلات النمو الصينية وتؤمن من ناحية قدرتها على المنافسة الدولية.
وعلى عكس العلاقات الأمريكية - السوفييتية خلال الحرب الباردة فإن العلاقات الأمريكية - الصينية علاقات تقوم على المنافسة والشراكة في آن معاً. إن المحافظة على هذه العلاقات تتطلب من الجانبين عقلاً مرناً هادئاً واستعداداً لمعادلة المصالح المتبادلة؛ لذا سوف يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية عدم “دمج” الصين في النظام القائم للسياسة الدولية والاقتصاد العالمي فحسب، بل فتح المجال أمامها لتتبوأ مكاناً في القمة يليق بها. والصين من ناحيتها سيتعين عليها الاعتراف للولايات المتحدة الأمريكية بدورها كقوة باسيفيكية في شرق آسيا والعمل بجانبها على حل الأزمات بين البلدان الآسيوية الأخرى سلمياً، وبالاعتماد على المساواة.
كما لا يوجد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين أي نوع من أنواع تصادم الحضارات، كالذي يتحدث عنه صموئيل هينتنجتون، ولا وجود لأية أزمة عقائدية، بل هناك صراع على المصالح، وفي الوقت نفسه اتفاق على المصالح. هذا هو الجوهر الصحيح لأي سياسة خارجية.